" حُبٌ مُجرّد"
قالت في لحظة صفاء داخلي وحالة من التجلي:
"وكأني تجردت من كل شيء في واقعي"
فقلت بلا، هو كذلك فالحب تجرد.
وكيف يكون الحب إن لم يكن تجرد..!!!
الحب يجردك من واقعك الرتيب، الساكن، الممل، واقعك المليء بالهموم، والمتاعب، والمصاعب.
ويصنع لك واقعا مفعماً بالنشاط والحيوية، واقعاً أكثر ابتهاجاً وسروراً، واقعاً رائقاً رائعاً صحياً.
الحب يجردك من عمرك، فيرمي وراء ظهرك عشرات السنين التي اثقل حملها كاهلك،
فهي لم تمكن سوى أرقاماً جوفاء بلا معنى، فرضت عليك لتُدونَها في أوراقك الثبوتية، و وثائقك الرسمية.
ويعطيك عمراً فريداً، وتاريخ ميلاد جديد، يبدأ تدوينهُ مع أول نبضة حب.
الحب يجردك من لغتك الصماء، لغتك البكماء، لغتك التي أضحت كفستانِ راقصةٍ شمطاء، ممزقٌ من كل مكان، لغتك الجافة، المبتذلة، المملولة.
ويبدلها بلغة أكثر رشاقة وأكثر خفة، أكثر لطافة، أكثر أناقة، وأكثر رقة، لغة أوسع تعبيراً، وأكثر دقة، لغة تشف عن معاني فريدة،
وصور مبتكرة، وعاطفة جياشة، لغة مختزلة، لغة حديثة ومحترفة، لغة تدق طبلة قلبك قبل أن تطرق طبلة أذنك، لغةُ بناء لا لغة هدم.
الحب يجردك من أفكارك البلهاء، الباردة، وأحلامك المتواضعة الشاحبة، وخيالك الضيق المحدود.
ويمنحك أفكاراً خصبة، مملوءة بالدهشة، وأحلاماً ملونة بألوان قوس قزح، تزرعها في أحشاء القمر، وخيالاً شاطحاً جامحاً مجنونا، لا حدود له ولا قيود.
الحب يجردك من شخصيتك القديمة، الفاترة، الباهتة، المنطفئة، المتقوقعة، ويبدلها بشخصية مفعمة بالحيوية، متدفقه بالنشاط، شخصية أكثر انفتاحاً على الحياة، و أكثر جاذبية.
الحب يجردك من ذاتك المتخلخلة، فيشطرها نصفين: نصفٌ "أنت"، ونصفٌ "هو"، ويمزجها في قلبٍ وقالبٍ واحد، متماثل، ومتجانس، ومتماسك.
الحب يجردك من حواسك الخمس، فيجلوها ويصقلها، فتعود صافي الذهن، مرهف الاحساس، فترى المشاعر، وتلمس القلوب، وتسمع وشوشات العيون، و تتذوق الحروف والكلمات.
الحب يجردك من عقلك المزدحم بمشاغل الحياة، وإشارات التحذير الصفراء و الحمراء، عقلك المنغلق، المقولب، الموروث عن أسلافك السابقين.
ويمنحك عقلا خاصاً وجديدا، عقلاً منفتحا إلى اقصى حدود المجرة، عميقاً حتى قاع المحيط، لا يحده إلا حدود الدين، ولا يقيده سوى الأخلاق،
عقلاً يهوى التمرد، وحيناً يهوى التردد، تارة يعشق التهور، وأخرى يتأنى ويتريث، عقلاً فيه من حكمة لقمان، وسحر فرعون، و نرجسية قارون،
ممزوجة بذكاء إياس، عقلا يقودك إلى حافة الخطر، و يمرجح رأسك فوق هاوية الجنون.
الحب يجردك من قلبك الرتيب النبضات، كدقات ساعة عتيقة، علقت على حائط حجرة متهالكة، قشَّر الزمن نصف طلائها الوردي،
فظهر من خلفه لون جدارها الباهت، قلبك القديم المتكدس بالدماء المتجلطة في جوفه، قلبك البائس، الممتلئ بدمامل الأحقاد،
وخراريج الحسد، وتقرحات الشحناء و البغضاء، قلبك القديم المنشغل عن ذاته وعن حياته بحياة بقية الأعضاء،
فهو يلهث ليل نهار خلف هذه الدماء، فيحسب كمياتها، ويقيس شدة تدفقها، ومتى تخرج؟ وأين تذهب؟ وكيف تعود؟
وكأنه أنثى رقيقة، فقدت هويتها ونسيت طبيعتها وخلقتها الأولى، فهي لا تعرف من الحياة غير الولادة والرضاعة، ولا تفوح من كفيها سوى رائحة الطبخ والصابون.
ويزرع في صدرك قلبا قد لا يتسع صدرك لحمله، تشعر لوهلة أنه لم يخلق لحياتك وحدك بل لحياة كل هذا الوجود، قلب لولا الموت لكان جديراً بالخلود،
قلباً ينبض حباً، ويتدفق شوقاً، ويتوقد حنيناً، قلباً تفوح منه رائحة خزامى عربية، وتوليبة أوربية، و ياسمينة هندية،
قلب يتعامل مع قطرات الدماء وكأنها حمام زاجل، يربط في قدميها رسائل الشجن، ويدس تحت جناحيها الكثير من الأشواق، وقبل أن يطلقها يحضنها ويقبلها،
قلب في الصباح يشتد به النبض، فتفوح منه رائحة الحب، وفي المساء كأنه قديس يتبتل في صومعته، فلا تسمع الا تمتمات العشق، ولا تشم إلا رائحة بخوره الزاكي المحترق فوق أوراق ترانيمه.
الحب يجردك من يومك الروتيني، الرتيب، المكرر، المبدوء برنين منبه الجوال، والمنتهي بمعايرة منبه الجوال.
ويمنحك في كل يومٍ يوماً جديداً، فريداً ومختلفاً، يبدأ بصفير عصفور فضي حط على شرفة قلبك، وينتهي بانثناء سنبلة تعانق صفصافة على ضفاف روحك،
يوماً تشرق في صباحه الشمس على حدائق قلبك، و يبزغ في مسائه القمر في سماء روحك.
الحب يجردك من كل شيء، حتى من ملابسك، فيواجهك بجسدك العاري وجهاً لوجه، جسدك الذي طالما أشحت بوجهك عنه في المرآة،
لتتصالح معه وتتقبله كما هو، فلا يجعلك في حاجة لمشرط طبيب التجميل، أو حقنة فيلر او بوتكس، أو مرهم شد أو شفط أو ربط
فالحب يجردك من جسدك القديم، المهترئ، المترهل البالي، ويلبسك جسداً جديداً، أكثر جمالاً، وأكثر نظارةً، أكثر شباباً، وأكثر أناقة، وأكثر رقة.
إذاً فالحب يجردك من واقعك، من عمرك، من لغتك، من أفكارك، من شخصيتك، من ذاتك، من حواسك، ومن عقلك، من قلبك، من يومك، ومن جسدك.
فالحب بكل اختصار، يهدمك قديماً، ويبنيك جديداً، بنسق جديدٍ، وكيفية جديدةٍ، وحالة فريدة، وينقلك بطريقة هادئةٍ، و رهيبةٍ، من مرحلة الجمودِ، إلى حالة من التسامي.
هذا هو الحب المجرد، أو هكذا يجب أن يكون تجرد الحب.
وهناك فرق كبير وبون شاسع ما بين "تجرد الحب"، و "حب التجرد".
فالأول نادر وشحيح، والأخر مبتذل، تجده ملقى في كل شارعٍ، وعلى كل رصيف.
كما أن هناك فرق ما بين "حب مجرد"، و "مجرد حب".
فالأول يفعل كل شيء، والاخر لا يفعل أي شيء.
الأول نبي في العشق، تحدث على يده المعجزات، و تُصنع الخوارق.
والأخر يدعي النبوة، لا يستطيع أن يصبغ بالألوان جناح فراشة.
//
//
//
الوجيه