[align=center][tabletext="width0%;"][cell="filter:;"][align=justify]وجد نفسه في قسم الشرطة، تم القبض عليه ضمن مجموعة ممن يتعاطون الماريجوانا، وقبل أن يدخل إلى المحقق في القضية حدّثَ نفسه مؤنبا، ثم أُدخل على المحقق، الذي رمقه بنظرات عابسة، هزّته مرعبة إياه، فأنكس رأسهُ أرضا، وبلع ريقه تباعا، ورأى بأن يقول الحقيقة كما هي دون تحريف أو تزييف.
أنهال عليه المحقق بأسئلة متتالية، وكانت الإجابات مشروطة بنعم أو لا، هكذا قال له المحقق قبل أن يشرع بتحقيقه المُنهك.
قد كُتبَ اسمهُ في محضر التحقيق، إبراهيم، ولخمسةٍ وعشرين عاما قد دوّن عمره تحديدا، مربوع القامة، نحيل الجسد، له عينان واسعتان، حاجبيه كأجنحة طائر مهاجر، ذو أنف حاد، وشارب خفيف، حليق اللحية، قمحي البشرة؛ أحد خريجي جامعة الملك عبد العزيز بمعدل جيّد نسبيا، له قرابة سنة وستة أشهر لم يجد أي عملٍ ينتشله مما هو فيه.
أحبَّ ابنة عمّ له، تدعى نسرين، كانت تسكن بالقرب من منزله، ومنذ صغره وهو يلعب معها دون اكتراث لأي حواجز تمنعهما عن البقاء معا، فما زال كل منهما في حداثة سنّة، فلا خوف من بقائهما معا، بقيا هكذا حتى بلغ منهما العمر مرحلة الحجاب الشرعي ، فحجبهما ذويهما عن بعضهما، قد قال لها قبل ذلك بأنه يحبها، صمتت بدورها مبتسمة بخجل شديد، اتقدت حينها مشاعره نحوها فوضع نصب عينيه أهدافا عدة تضمن له الزواج بها، وبعد سنوات الحجاب تلك، وبعد أن أنهى الدراسة الجامعية، تقدم لخطبتها، فقوبل بالرفض من قبل عمّه رفضا قاطعا، لأنه لا يرى في إبراهيم تحمل المسؤولية الكاملة، ودون الخوض في التفاصيل هكذا أقنع عمه أبيه حينما طلب نسرين بأن تكون زوجاً لإبراهيم.
قُبضَ على أبيه لأنه لم يعيد الأموال لأصحابها، بعد أن جمع من المبالغ ما يكفي للمساهمة في مرابحة خاسرة، كانت تجارة وهمية قد نُصبَ عليه فيها، بعد أن دبّرَ لهذا الأمر من قبل مرتزقة يعيثون في الأرض فسادا، فصارَ ضحية أطماع لم تُراع فيه إلًّا ولا ذمة، ليبيع كل ما يملك، ويقترض من معارفه وذويه أموالاً تفوق حاجته متعللا بتلك المرابحة التي وَعدَ بنتائجها المغرية خيرا كثيرا، وما زالت القضية بين أخذ وجذب، لعل صك العسرة يشفع بخروجه فيما بعد.
بدأت الحادثة ترسم تفاصيلها بأحد أحياء جدة، حي القويزة، بمنزل شعبي على شارع فرعي من شارع رئيسي يطلق عليه ( شارع جاك )، وعلى نفس الشارع كان إبراهيم يتواعد مع صديقه عزوز الذي يسكن بالقرب كل يوم بعد صلاة العصر ، وعزوز هذا لم يكمل دراسته واكتفى بشهادة الكفاءة كحد أعلى لطموحاته، كثير التسكع، لا يعير للحياة أي اهتمام، ذو بشرة سمراء، وسنه مقارب لسن إبراهيم.
والد عزوز يعتبر الصديق الأقرب لوالد إبراهيم، لذلك اقترنت صحبتهما بصحبة أبيهما، لكنّ إبراهيم لم يتماشى مع ما يفعله عزوز، وكان يكتفي بلقائه في شارع جاك كل يوم بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب، ومن ثم يفترق عنه ليعود أدراجه إلى بيته الشعبي، وكان السبب في ذلك نسرين والتي لا تحب نوعية الشباب المتخاذلين، هكذا أوضحت برسائلها التي تُرسلها إلى إبراهيم بعد أن سنَّ عليها الحجاب عنه، وقبل أن يتم رفضه الاقتران بها كزوجة له، لتكون نهاية مراسلتهما بعضهما.
بدأت الحياة القاسية لإبراهيم بعد أن رُفضَ من قبله عمه بالزواج من نسرين، ومما زاد الطين بله، قد سجن أبيه بعدها بشهور، حيث بقي هو وأمه وأخواته البنات، ولأنه الولد الوحيد بين تسعة بنات أخريات فلقد كان هم المسؤولية ثقيلا، فأمه لا تملك من الأمر شيئا، سوى بعض إعانات قدرها أهل الحي بأن تُصرف لها حتى يجد إبراهيم عملا ملائما يسد الحاجة.
يحمل إبراهيم شهادته الجامعية كل صباح ويطوف المدينة بأسرها ولا يجد من يستقبله برحابة، كان هذا في عام 1429 هـ قبل حادثة السيول التي حدثت بجدة عام 1430هـ .
ضاقت الدنيا به بما رحبت، فوجد نفسه يندب حظه العاثر أمام عزوز، وهما يجلسان بعد صلاة العصر كعادتهما على أحد أرصفة الشارع، شارع جاك، ليسأل عزوز:
- أليس هناك من سبيل ينسينا الهموم! ؟
فأجابه عزوز ساخرا:
- ما رأيك في الانتحار !
- أعوذ بالله من هذا .. فالأمل في الله كبير !
- أي أمل تتحدث عنه..لا يوجد ما يستحق أن نعيش من أجله دعك من هذا !
- فما ترى من أمرنا يا عزوز !!
- أتركني لدقيقة أبحث لك عن حل .. أمممم .. ما رأيك بمعاكسة الفتيات لعلنا نجد من يُقدّم لنا أعطيات الحب ؟
- فتيات !! أتريد أن نفلس على ما نحن عليه من إفلاس ! لست مؤهلا لذلك !
- ما رأيك بأن نُدخن الماريجوانا !
- أمجنون أنت !! لعلك تمازحني !! أليس لديك حلول غير المحرّمات !!
- إنها كتدخين السجائر فقط !! لا أعلم لماذا نبذها المجتمع ! فلماذا لم ينبذ السجائر وهي من المحرمات أيضا !
- مستحيل !! إنسَ الموضوع !
- لكننا ندخن السجائر منذ سنوات !
- السجائر أمرها هين بجانب تدخين الماريجوانا !!
انزعج إبراهيم من حديث عزوز فتركه لحاله وعاد إلى بيته الشعبي، والهموم تحيط به من الاتجاهات، وهو عائد إذ يسمع صوت الأذان، أذان المغرب فتنهد عميقا، وأخذ على عاتقه بأن يذهب إلى المسجد لعله يجد راحته هناك !
لم يُغادر المسجد بعد انتهاء صلاة المغرب، بل بقي ساندا نفسه على أحد أعمدته، وعيناه إلى أسقفه حائراً من حاله، يجول بفكره هنا وهناك حتى أدركته صلاة العشاء ليؤديها مع جماعة المسجد، وبعد انتهاء فرض الصلاة، قام على الفور ليعود إلى بيته ويرى حاجة أهله ! وهو كذلك إذ رأى عزوز جالسا على أحد الأرصفة ويتضح عليه بأنه ينتظر أحدهم، لفت انتباهه ذلك بعد حديثه الأخير معه، فإن له شأنا لا يعرفه، ولفضول منه أراد أن يتعقب أمر عزوز كي يعلم ما يخبئ من أمر، فانتظره وهو يرقبه من مكان لا يلحظه منه، وبعد ساعة تقريبا من الانتظار، إذ به يترك المكان ويمضي باتجاه معاكس لاتجاه بيته، فعلم إبراهيم بأنه عزوز يمضي إلى أمر ما، تبعه بحذر شديد، وتتبعه وهو يسير بمحاذاة شارع جاك حتى وصلا إلى آخره، فانعطف يمينا متوغلا بأحد الأماكن التي لا إنارة فيها، وتتبعه إبراهيم حتى وقف بأحد الزوايا المظلمة، فوقف إبراهيم يتابع ماذا سيفعل عزوز في هذا المكان !
أخرج عزوز كيسا صغيرا من جيبه، ثم جلس مكانه، حيث لا أحد من العابرين قد يعبر من هنا، لأنها منطقة معزولة، والبيوت فيها مهجورة من السكان، فبدا على عزوز كأنه يصنع شيئا، يحرك يديه ثم يرفع إحداها حامل ورقة صغير إلى فمه، ويمررها على لسانه ثم يعيدها إلى مستوى نظره، وكأنه يصنع سيجارة أو ما شابه، كان إبراهيم يقف بالقرب منه بحيث لا يشعر وكان سيناديه بصوت عال إلا أنه تريث قليلا.
قامَ عزوز بإيقاد سيجارته التي قام بعملها، ثم اتكأ على عمود إنارة لا إضاءة فيه، يدخنها بكل هدوء، فناداه إبراهيم فجأة:
- عزوز !! ماذا تفعل !!
فُجعَ عزوز فجعا شديداً، أطفأ سيجارته على الفور وقام بجمع أشيائه في الكيس الصغير، ثم عقده سريعا ووضعه في جيبه، وترك المكان هاربا وهو يعدو بأقصى سرعته.
تعجب إبراهيم لهذا وتفاجأ، ظل صامتا لبرهة ثم أدبر يحلل ما رآه من عزوز، فخرج بنتيجة أكيدة .....
- إنه يدخن الماريجوانا بلا شك !
في اليوم التالي قابل إبراهيم صديقه عزوز، وبنظرات حادة سأله:
- عزوز ! ماذا كنت تفعل ليلة البارحة في المنطقة المهجورة، أكنت تدخن الماريجوانا !
- أهو أنت !! يا إبراهيم ! لقد ظننته شرطيا !!
- نعم أنا ! منذ متىى !!؟
- إيه يا صاحبي |! منذ ثلاث سنوات وأنا على هذا الحال !
- ولماذا تُهلك نفسك وتعرضها للخطر !
- هذه حال الذي خسر كل شيء !
- وما فيها ! كي تلجأ لها !
- لا أستطيع وصف الحالة !! إنها حالة انتشاء تنسيك كل شيء ! ولن تعلمها حتى تجربها !
- أتنسي كل شيء !
- نعم !! وتجعلك سعيدا لساعات !
- أتدري يا عزوز ! مع احتقاري لها إلا أنها تدعو إلى التساؤل وبما أنك صاحبي وقد بدأنا تدخين السجائر معا، فلن امتنع عن تجربتها مرةً واحدة معك ! فقط لكي أثبت لك بأن لا فائدة منها !
- تجربة !! لا يا صاحبي لن أرضى لك هذا !
- ولماذا ترضى على حالك ما لا ترضاه لي! إن كنت صديقي بحق فلتترك عنك هذا أو تدعني أقوم بالتجربة معك ما وجدته أنت فيها.
دار الحديث حول هذه التجربة دون اقتناع عزوز بترك تدخين الماريجوانا مهما حدث فقرر أن يجعل إبراهيم يخوض التجربة معه.
اتفق الاثنان على اللقاء باستراحة لمجموعة من شباب الحي، فيها اجتماعهم الدائم حيث يقومون بتدخين الماريجوانا هناك، إنها التجربة الأولى لإبراهيم ، وبعد أن تم ذلك، أمسك إبراهيم سيجارة الماريجوانا لأول مرة، وقام بتدخينها وهو كذلك إذ اقتحم المكان رجال الشرطة وتم القبض على الجميع.
أنهى إبراهيم وعزوز سرد حكايتهما عند المحقق، بعد أيام من التحقيق، حضر بعض من أهل الحي إلى المركز، وبعد مفاوضات عدّة، تم دفع كفالة الاثنان وإخراجهما بضمان مكان إقامتهما، وبعد الإمضاء على التعهد بعدم العودة لمثل هذا الفعل.
وفي الثامن من شهر ذي الحجة لعام 1430 للهجرة اجتاحت السيول العارمة حي القويزة إثر أمطار عاصفة آن ذاك فقضت على أغلب مساكن الحي، جارفةً معها الجثث ومن ضمنها عائلة إبراهيم وعائلة عزوز، وبعد البحث المضني لم يتمكن رجال الدفاع المدني من إيجاد أي أثر لهم.
أفرج عن والد إبراهيم، بعد أن علم بخبر عائلته التي قضت نحبها جرّاء الكارثة، حزنَ لهذا كثيراً، وتألم لفقدان عائلته ألما عميقا، حتى أنه لم يتقدم بأخذ المليون ريال التي قدرت كتعويض للمتضررين من الكارثة، فلم يعد للحياة معنى أو أمل يُذكر.
[/align][/cell][/tabletext][/align]