ج 18
لم يستطيع منع شهقات روحه فهي قررت الرحيل حقاً...هل ستقتله بذات الطريقة التي سبقها إليها مراد ولكن بوجهٍ مختلف؟
هو متمسكٌ بها حتى النهاية ولن يسمح لها بالرحيل لكن ماذا لو لم تستجيب...؟
غادر حجرتها على غير هدى جلس في فناء المنزل الواسع ينتظرها.
حين رأته أشاحت بوجهها تخفي كل البؤس الذي قرأه قبل قليل ...وللمرة الأولى منذ حضورها يشق صمت الكون صارخاً باسمها.
ياسمين ...تجمدت في مكانها وكاد قلبها يتوقف عن النبض ...وهل كان اسمها يوما بهذا الجمال
ياسمين انتظري ـ وضع يده على كتفها الأيسر وأدارها لتكون في مواجهته ـ تعلمين أن في جعبتي الكثير لأخبرك به ...أنا لن أتحدث طويلا سأكتفي بأن أخبرك أن رحيل مراد لا علاقة لك به ,أنت دعوت الله بالخلاص مما أنت فيه على أن مراد لم يكن يوماً الطرف الأخر ليمسه دعائك بسوء فاتركي عنك ألم القلب وتأنيب الضمير.
حدقت بوجهه مذهولة تأبى دموعها السفر لم تعلق ولو بحرف واحد وقد طاف في قلبها سؤالٌ كعادتها تكتفي به عالقاً في جوفها
تُرى سمر من أخبرته أم أنه حقاً يقرأها ...؟
لم ينتظر طويلا: وأيضاً أنا لستُ رجلا لعوب ,قلبي لم تفتح أبوابه إلا لياسمينةٍ واحدة احتضنها بدفء لكنها رفضه بقسوة بشدة لا تتناسب معها ...أردت اجتياز الحدود التي أوجدتِها لكن جبروت صدك وإعراضك ألزماني مكاني لفترةٍ طويلة على أنني عاشقٌ يحتضر في ظل حضورك كما في غيابك.
لن أسألك الآن البقاء بل سأفتح لك أبواب الرحيل على مصراعيها لتختاري لكن إن أرداني رحيلك قتيلاً لمن تعتذري إلى نفسك ...لوالدي أم لمراد الذي قتله دعائك كما تظنين ؟
ـ خلع خاتمه من يمينه ووضعه في يدها ضغط أصابعها فوق الخاتم ـ هو بيدك ولك القرار إما أن تعيديه وإما أن تلقيه بعيداً حينها سأغيب...سأغيب كشمسٍ آن لوهجها أن ينطفئ وقبل أن تنظري لخاتمي تعالي لتري شيئاً آخر.
قبض على يمينها كما فعل سابقا ومضى بها إلى حجرته أمام الجميع ...لم يكترث أحداً لما يحدث أتصدقُ الآن أن كل ما عاشته وهماً قاتلاً نسجته بيدها واختبأت خلفه رافضة لشمس الحقيقة تغزو روحها فتذيب صقيع عذاباتها الكثيرة؟
مضى بها إلى حجرته لم يتوقفا إلا بجانب سريره الفخم أشار لوسادته بصمت.
أما هي فما أن وقع بصرها على الوشاح حتى عرفته أخذته بيدين مرتجفتين تبكي بحرقه
: إذن هو معك ؟أنت احتفظت به لأنك أردته وليس سهواً منك؟؟!
عادت له بعينين باكيتان قسوة صمته,تنهد يفك قيد حروفه التي ألجمها طويلاً
:في ذاك النهار أخذته عنوه فقد وقعت في قلبي موقعاً ليس سهلاً علي الرحيل عنك بعده وذلك الموقف ليس سهلا أن أجتازه إليك ,لقد عدت لتلك البلدة مراراً وتكراراً لعلي ألتقي بك من جديد على أنك رحلت كسحابة صيف أتت تظللني ثم رحلت عني عطشاً لا ترويه أنهار الدنيا مجتمعة.
أدركني اليأس فقررتُ سؤال شقيقيك مصعب وقصي فهما صديقين صدوقين وحتما سيساعدانِ على معرفة السبيل إلى من أحب.
غادرت العاصمة إلى تلك البلدة لكني لم أصل فقد توقفت للمساعدة في إخلاء من أصيبوا بالحادث لأدرك أنهم أصدقائي والدتهم شقيقهم الأكبر والشقيقة الصغرى تلك الياسمينة الصغيرة التي رأيتك في وجهها النازف.
سألتها هل لك أختٌ أخرى أشارت إلى صدري مردده تحاول قهر الموت عاشقٌ أنت وأحسبك تبحث عنها إنها ياسمين.
لذا أسرعت في زواجي منك حتى قبل حضورك لم أشأ أن أخسرك لأي سبب والتأجيل سيردي قلبي قتيلاً.
في تلك اللحظة خفق قلبها بجنون : هذا هو سبب زواجك مني وهل أنت الزوج الذي رفضته لأجلك.
هز رأسه باسماً: ثناني عن القرب منك صراخك بالرفض حين رأيتيني ولم أدرك ظنك أن زوجك في سفر إلا حين استمعت إليك ـ نظرت له بذهول ـ نعم أنا من بكى فتناثر دمعه على أوراق دفترك أنا من عشقك وحاول الاقتراب فصددتيه كي لا تخوني زوجك وتدنسي طهرك.
أنا عاشقٌ يفتديك بعينيه الاثنتين وليس باليمنى منهم فقط... الآن لك حرية الاختيار فإما على سفر وإما على استقرار... لن أرغمك على قبول هذا الزواج من جديد.
تركها في حجرته عائدا لصالة الجلوس ,نظرت في خاتمه لتجده قد نقش عليه تاريخاً ما ...هذا التاريخ أعاد لذاكرتها المشهد ذاته نعم جذبها من يمينها لتستقر خلفه فيحميها لكنه في الحقيقة زرعها بين عظام صدره وفي النبض منه ثم وبعد حين ربما بعد أن التقى شقيقتها وربما بعد حضورها لمنزلهم نقش اسمها بجوار تاريخ لقائهما الأول.
اكتفت من التفكير تلفتت من حولها تحلق في عالمه الخاص فلفتت انتباهها علبة الموسيقى خاصتها والتي تحطمت بسببه في لقاءٍ سابق ,جلست على الأريكة تتأملها بسرور وتذكر يوم أهداها إياها شقيقها قائلاً
:هذه العلبة وضعت قلبي فيها لك هدية فلا تكسريها أو تفقديها فتفقدي قلبي معها.
عادت تبكي :أنت لم تكتفي بحمايتي فقط بل حفظت لي أحبتي بهداياهم فهذا وشاحي ورائحة يدي أمي عالقةٌ به وهذه علبة الموسيقى قد عادت وكأنها لم تكسر وقلب أخي بحبه وخوفه علي لا زال يسكنها...فبماذا أجزيك وكيف أرد جميل صنيعك؟؟
خرجت إلى حيث تجتمع العائلة تعبث بخاتمه في توترٍ واضح جلست بجواره وللمرة الأولى منذ دخولها هذا المنزل
:نعم أعترف أنك من تربع على عرش قلبي من أجلك رفضت زواجي وكدت أقتل نفسي لا علم لي ما علاقة زوجي بمراد ومن أين أتت قصة السفر تلك أنا كنت شبه غائبةٌ عن الوعي لكن عقلي التقط الاسم وقصة السفر هالني وجودك بين أفراد العائلة وسحقت عام صدري علاقتك بمراد...اشتعلت روحي غضبا فأنا لم أهب نفسي لرجلٍ سواك قبل أن أعرف لك طريق فكيف أفعل وقد بتت أقربُ إلي من وريدي؟
أقسمت سابقا على الاعتراف لك بحبي وأشواقي وعلى قربك عجزت عن البر بهذا القسم أما الآن وقد آن لي أن أختار فأنت تعلم أنني لن أختار بديلا عنك إلا كفناً أمضي به إلى عائلتي وإن كنت كل عائلتي.
جذبت يساره وألبسته الخاتم نظرت في عينيه نظرة مشرقة رغم الحزن الذي مر
:أنا أقر بهذا الزواج وأرضى به قلبا وروحا وجسد...أتمناك بقربي على الدوام فلا تتركني لا تبتعد لأي سببٍ كان.
سكب قبلة على جبينها وضمها إلى قلبه: أنت دنياي فإن ابتعدت يوما فاعلمي إلى تراب.
أقفلت فمه بيدها دامعة ورجته أن لا يذكر الموت مجدداً فقد أخذ منها الكثير ربت على كتفها بحنان
:لن أذكره مجدداً سنمضي معا في دروب الدنيا نبني حياتنا الخاصة ولكن لي رجاء ـ حدقت بعينيه ـلا تكفي عن الحديث إلي استمري حتى أرتوي .
ضحكت كطفلةٍ صغيرة: سأتحدث لك في كل حين حتى يدركك الصداع من ثرثرتي وسأشتكي منك إليك ولن أقبل عنك بديلاً أقف في ظله أحتمي به وأروي ظمأ روحه بأريج بساتيني.
\
\
الــنــهـــايــــه