في طرف الفناء في الدار الملقاة أسفل تفرع ضيق في المدينة الصغيرة، يمدد معطفه القديم قربه
وهو مستند الى جدار .. يحدق في كتاب ويبتسم .. وبين قينة وأخرى يلقي نظرة على الصغيرة التي
تلعب هناك تداعب أوراق نبتته الرشيقة ..
المدينة الصغيرة التي كان يسكنها لم تكن تعرف البحر .. وكانت تملك أفقاً صغيراً مثلها تكشر في
وجهه صبح ومساء فيتغضن جبينه غضباً .. ويصمت .. والفتى الذي كثيرا ما كان يدور في ارجائها
بمعطفه القديم والكتاب والابتسامة .. قيل عنه انه كان يتميز بجبين واسع كأنه السماء .. وان عينيه
كانتا تبرقان كالنجوم دون ان يكون هناك ليل !
كل الفتيات في المدينة الصغيرة عندما يسمعن غناءه الحزين وهو يبتسم في الطرف الآخر للمدينة
.. وهو يردد
البحر يا مدينتي بداية النهار ..
لا غيره السفار
بحثاً عن البحار
عندما يسمعنه كن يرددن في خفوت :
الليل في سكون ..
هل يرحل المحار !
وكانت قلوبهن الغضة تخفق في وجل، وهو يردد
لا غيره السفار ..
كن يتخيلن مشهد الأمواج وهي تستل محارتهن من قلب المدينة .. ولم يكن غناؤه يغيب عن بقية
أهالي المدينة الصغيرة فكانت الجدات يغرقن في نوبة دعاء طويل .. وكان الرجال يغمغمون بأسف
مبهم : انه الفتى الذي يحبه الجميع في المدينة الصغيرة .
ذات مساء
كعادة المساء في استلاب من نحب
قرر الفتى الرحيل ..
كانت المدينة قد استرخت قليلاً وكان الأفق قد استرد بعض أنفاسه بعد عضب نهار طويل.
طفق يتأمل الصغيرة التي أخذت تلعب بلا تعب للحظات .. حمل معطفه القديم والكتاب وابتسامة
حزينة وداعب نبتته الرشيقة قليلا ومضى وعندما سألته المدينة الصغيرة الى اين؟ كان يردد:
بحثاً عن البحار ..
بداية النهار
هناك على قارعة المدينة الكبيرة التي اخبروه أنها تحتوي البحر بين طياتها الممتدة، توقف يرهف
السمع عله يسمع صوت موجة الصباح أو تداعب خياشيمه رائحته الموغلة بالانتعاش .
كان الفتى يشق شوارع المدينة الواسعة وهو يراقب الناس أمام الفتيات كان يخفض رأسه لم يلتفت إليه احد ولم يلتفتن إليه، وضع معطفه على كتفيه بهدوء ومضى يتخيل البحر واقفاً يحتضنه ..
والمعطف القديم له حكاية قديمة أيضا .. يتذكرها الفتى وهو يذرف دمعتين . لؤلؤتين من قلبه
الذي لا يشبهه احداً سوى المعطف . الحكاية تبدأ مع بداية الصقيع في تلك المدينة الصغيرة كان الفتى
كعادته ممدداً يحدق في الكتاب .. وقربه صديقه القديم .. الجديد .. والصقيع كالظلام
يسود كل قطعة من روحه ..
من جسده ..
من اغنية المساء التي لم تكن تعرف الحزن .
ومات صديقه وهو يدثر صديقه بمعطفه الدافئ مات في الصقيع ليظل الفتى يشكو الدفء سنوات
الذكرى المؤلمة ويظل يحمل المعطف القديم صديقه الحبيب وقلبه الذي لا يشبهه احدا سوى معطف
صديقه الوفي، يتلفت الفتى كعادة الغرباء كل قليل، يذهله الاتساع فيغوص في الابعاد الممتدة بلا
وعي يشد الكتاب الى صدره للحظات ويرخي ذراعيه ذاهلا عن نفسه للحظات اخرى ..
المدينة الكبيرة تمتلك الشوارع الكبار ..
كلها كانها ثعابين سمينة سوداء مستلقية هناك في المدينة ..
صانعة حضارة لم يرها من قبل ..
لكنه لا يزال يبحث عن البحر، غره الأفق للحظات ، يا له من افق متمد ..
لكن جبينه يشبه نوعا ما جبين أفق مدينته الصغيرة .. متغضن غاضب .. غرس ابتسامة متقطعة على جانبي الطريق، مسح جبينه الواسع بلا داع وطفق يلتمس الدفء بين ثنايا المعطف والكتاب ..
كان الفتى يعود احيانا مع العتمة الى المدينة الصغيرة يتأمل الصغيرة التي لا تمل اللعب ويداعب نبتته
الرشيقة قليلا ثم يمضي ..
ولج الشتاء المدينة الكبيرة غمغم الفتى وهو يرمق الأفق ويحتضن المعطف
الشتاء يا صديقي قارس كالموت .
وكان الشتاء اشد برودة مما هو عليه في المدينة الصغيرة .. يتسلل عبر المعطف ليجمد اوصاله
بهدوء .. ويشعل الذكرى بصمت .
عندما حدثوه عن البحر في المدينة الكبيرة لم يحدثوه عن الخطوات التي تضيع بين اغوارها الممتدة
ولا عن الابتسامة التي تتلاشى على اسوارها المصقولة، والفتيات في المدينة الكبيرة والجدات والرجال
لم يكونو يلتفتون اليه عندما يسير، وحتا عندما عاد يغني اغنيته الحزينة لم يجد من يردد خلفه
هل يرحل المحار ؟
هل يرحل المحار ؟
سار الفتى طويلا في حنايا المدينة الكبيرة ولم يسمع للبحر هسيسا .. وعندما جلب المساء سوطه
المرعب، شعر الفتى بأن هناك من انقض على كاهله وسرق منه المعطف القديم ..
درف لآلئ محترقة من عينيه، تفصد جبينه البارد عرقا .. جثا على القارعة متداعيا ..
خطفت كتابه الرياح حملته مزقا الى حيث لا يدري ..
وقبل ان يتنفس الصبح كانت الابتسامة قد تلاشت بذهول ..
الفتى لم يعد الى المدينة الصغيرة .. قيل ان نبتته الرشيقة أصبحت شجرة فارعة وأن الصغيرة كبرت
وبدت كأنها موجة رائعة الانتشاء ..
ولم يعد الفتى، لكنهم وجدوا هناك في طرف الفناء في الدار الملقاة اسفل تفرع ضيق للمدينة
الصغيرة عند الجدار وجدوا المعطف القديم مستلقيا كعادته وقربه مزق الكتاب هناك .. في المدينة
الصغيرة .