|
قــطــرات الـقـصـة والروايــة ( خاص بالمواضيع غير المنقولة) |
|
15-01-17, 01:22 PM | المشاركة رقم: 1 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
خطأ في التشخيص - قصة قصيرة
خطأ في التشخيص عبر احمد البوابة الزجاجية الي غرفة الانتظار في مختبر المدينة الطبي وهو متردد وغارق في الهم والتفكير في مشاكله الصحية التي كادت ان تكتسب مع الأيام صفة المرض المستعصي والمزمن رغم مراجعاته المتكررة للأطباء الذين تعددت مجالات تخصصهم ومشاربهم. كانت ملامح الخشية من نتيجة فحص الدم ترتسم على محياه، وتثير جهازه العصبي، فبدى في لحظتها متوترا فوق العادة، فهو يكره لون الدم، ووخز الابر، بل هو يمقت كل ما يمت الي الطب والأطباء بصلة، وهو موقف غير اصيل لديه، لكنه اكتسبه مع الأيام لعجزهم عن مساعدته وعلاجه، ورغم ان هذه ليست اول مرة يجري فيها فحص دم، لكنها اول مرة يجري فيها مثل هذا الفحص الاستكشافي الشامل، وهو متوجس خيفة وهو يستشعر كل الاحتمالات المفتوحة على مصارعها. بالأمس كان قد حسم امره بإجراء هذا الفحص دون الرجوع الى الطبيب هذه المرة، وعلى الرغم ان أحدا حوله لم يشجعه على ذلك، مستذكرا كيف ان طبيب الاسرة كان قد زجره حينما طلب منه إجراء فحص دم شامل له قبل سنوات، ونصحه الطبيب حينها بممارسة الرياضة، وان يبعد عن نفسه الأفكار السوداء، مفندا رايه بانه لا حاجة لشاب مثله، يبدو بكامل صحته، ولياقته البدنية بذلك الفحص...فمثل تلك الفحوص تجرى لمن اكل الدهر على محياهم وشرب...ولمن زحفت على رأسه جيوش الشعر الأبيض...او على الأقل من ظهرت على قسماته اعراض الاصفرار والتعب والمرض، وهو لا يظهر عليه أي من تلك المظاهر المرضية ابدا...بل على العكس، يبدو رياضيا مفعما بالحياة، ومظهره اقرب الى مظهر ابطال كمال الاجسام، تعلو وجنتيه حمرة ملفتة .... وها هو اليوم يجد نفسه مترددا في عبور تلك البوابة، يقدم رجل ويؤخر أخرى، وكأنه يخطو عبرها من عالم الصحة الي عالم المرض والالم والمستشفيات...فمن يدري ماذا ستظهر تلك الفحوصات؟؟!! فعلى الرغم انه دائما ما كان يواجه بصيحات الاستهجان حينما يشتكي، هو يشعر في قرارة نفسه بأن خطأ ما يلم ويعصف به منذ سنوات طويله، تزيد على العشرة، ومنذ ان كان في سنته الجامعية الأولى. لكن أثر ذلك الشعور المرضي المخيف تفاقم مؤخرا بشكل مرعب وغير مسبوق، ولم يعد يصدق وكما قالوا له انها مجرد أوهام، ووسواس، وتصورات يخترعها عقله الذي لا ينفك هذه الأيام يفكر بالمرض؟؟!! وهي اتهامات كان يسوقها حتى أقرب الناس اليه ولطالما ضاعفت المه، وافقدته الثقة بكل شيء، وجعلته يفكر بينه وبين نفسه، بأنه ربما يكون فعلا مريضا نفسيا، وكان اشد ما يخشاه وسره الدفين الذي قبره في ثنايا صدره، هو فقدانه للسيطرة على نفسه، السائرة على ما يبدو في درب الجنون لتصل به في نهاية المطاف الى مستشفى الامراض النفسية والعصبية او الانتحار. وما ان دفع الباب ليعبر بوابة المختبر حتى دق الجرس المخصص لمثل هذه الأماكن العامة مشعرا من بالداخل عن وصول مراجع جديد... بادرته الممرضة المكتنزة التي برزت له مبتسمة من غرفة جوانيه، واضح ان رنة جرس الباب لفتت انتباهها له، وبادرته بالسؤال عن حاجته وكيف يمكنها ان تساعده؟ - فأخبرها برغبته في اجراء فحص دم شامل...فاستفسرت عن تحويلة الطبيب فرد عليها بأنه لم يأت بواحدة لأنه يريد اجراء فحص روتيني استكشافي شامل... فأمسكت الممرضة بقلمها ودونت في ورقة نموذج طبي امامها أنواع الفحوص التي قررت ان تجريها له بعد ان سألته عن شكواه؟ - فرد عليها بأنه يشعر بإرهاق وتعب شديد وشبه دائم، ولا يكاد يستيقظ من النوم، كما انه يشعر بأوجاع هنا وهناك، وأشار لها نحو نقاط محددة على رجليه ويديه ومفاصل عظامه... وقص عليها باختصار شديد قصته الطويلة والمؤملة مع المرض، والوهم، والوسواس القهري الذي اتهموه فيه حتى كاد ان يسلم له امره... تلك القصة التي تعود بداياتها الى عشر سنوات، مضت من عمره دون ان يشعر فهيا بطعم السعادة والهناء... بل سيطرت عليه خلالها مشاعر الكآبة والمرض والالم واليأس ومخاوف من فقدان السيطرة، وربما الانزلاق في متاهات الجنون... واخبرها كيف انه أصبح مع مرور الزمن...على وشك فقدان عقله لولا انه احتفظ في ثنايا قلبه ببصيص امل لعله يخرجه يوما ما من هذه الدوامة شديدة العتمة والبؤس... وصار لا بد له ان يطمئن بعد ان تفاقمت حالته...فلعل وعسى ان يسعفه هذا الفحص ويخلصه من ذلك المأزق السرمدي...خاصة ان قراءاته الأخيرة في مواقع البحث على الشبكة العنكبوتية فتحت له نافذة من التفاؤل وضاعفت من قوة شعاع الامل الكامن في قلبه، حينما قرأ عن حالات مرضية لها نفس الاعراض التي ظل يشعر بها طوال تلك المدة التي قاسا فيها الامرين... وما ان انتهت الممرضة من الكتابة حتى اشارت اليه بالدخول الي الغرفة الصغيرة المجاورة... فسار باتجاه الغرفة بتثاقل، وما لبث ان استدار بوجهه نحوها بعد ان سار مبتعدا عنها خطوتين او ثلاثة خطوات على الأكثر، ونبهها ان تهتم أكثر ما تهتم بفحص الغدة الدرقية لغرض في نفسه... عبر الى غرفة الفحص وجال ببصره فيها بنظرات فاحصة سريعة، فوجدها غرفة صغيرة اشبه بزنزانة أحد السجون، لا يوجد فيها سوى كرسي واحد مخصص لجلوس مرضى فحوص الدم، والى جوارها خزانة خشبية مطلية باللون الأبيض، تملأ رفوفها أدوات طبية متنوعة...قطن، وشاش، ومطهر، وقناني صغيرة لتخزين الدماء المسحوبة لحين نقلها الى ماكينات الفحص داخل المختبر، وعلى جدار الغرفة المجاور لموقع الكرسي يوجد مسمار وحيد دق في الحائط وعلق عليه حبل مطاطي مخصص لشد اليد لزوم ابراز الاوردة لتسهيل علمية سحب الدم ... لم يطل انتظاره هناك فما ان انتهى من رفع كم قميص يده اليمنى، وكشف عن ساعده حتى بادرته الممرضة بقولها وهي تقف الى جواره ممازحة... -تبدو شاحبا هل تخشى الابر ام هو منظر الدم؟؟ ووعدته بأن تكون يدها خفيفة، وان لا يشعر بالألم، وما عليه الا ان يسترخ هو ويساعدها على انجاز المهمة بسرعة ويسر... سلمها يده مكرها، واشاح بوجهه الي الجهة الأخرى، وتنفس تنفسا عميقا، وحاول ان يكتم نفسه لعل ذلك يساعده في عدم الشعور بألم وخزة الابرة كما اعتاد ان يفعل في مثل هذه المواقف...وما هي الا ثوان قليلة حتى فكت الممرضة الحبل الذي لفته حول ساعده، وغطت مكان وخزة الابرة بقطعة بلاستر معقمة...واخبرته ان المهمة أنجزت بسلام وطلبت منه ان يعود للحصول على النتائج بعد ساعتين على اقل تقدير... غادر المختبر وهو يتحسس مكان الابرة، يفكر ويسأل نفسه كيف سيقضى كل هذا الوقت وهو بانتظار نتائج هذا الفحص المصيري؟ وتمتم في نفسه...ياه ...الساعتين تكونان بطول سنتين ما دام الامر يتعلق بحالة انتظار نتائج فحص دم ربما يأتي بنتائج كارثية، مرعبة ...فمن يدري؟! لم يشأ ان يعود الي المنزل...اراد ان يعرف نتائج فحص الدم أولا...وصار يدور في شوارع المدينة على غير هدى، يحاول قتل الوقت الذي اخذ بدوره يدور ببطء شديد لم يشهد له مثيل من قبل... اتجه أولا نحو الشرق وسار حتى وصل الى دوار جمال عبد الناصر الذي هو مركز السوق التجاري ونقطة استقطاب تجار المدينة والمتسوقين، وهو قلب المدينة النابض... ومن هناك اتجه غربا عبر شارع فلسطين، ثم انعطف الى شارع سفيان، وشارع العدل، ثم اوغل في الاتجاه غربا حتى وصل الى منتزه البلدية، لعل المكان بأشجاره الوارفة، وسحر الطبيعة، وخضرة العشب الذي يغمره واصوات العصافير التي تسكن على الأشجار والعاب الأطفال ومرتادي المكان تسري عليه همه، وتخفف عنه وطأة الانتظار والزمان الذي بدى له سرمديا، وصار يستعجل انقضاؤه بصبر وملل وخشية وتحسب... كان يسلي نفسه اثناء سيره في شوارع المدينة بالنظر في بترينات المحلات التجارية، ويستمع لأصوات الباعة المتجولين...يمعن النظر بوجه هذا، ويشيح بوجهه عن ذاك...يحاول جاهدا ان يشغل نفسه عن التفكير بفحص الدم ونتائجه، وعن قصته مع المرض والالم، وكل الاحتمالات التي قد يجد نفسه مضطرا للتعامل معها في لحظة حقيقة مدوية...لكن الافكار كانت تدور هي أيضا في رأسه كحجارة الرحى...تتوالد كالأفاعي، تتلوى في جحورها ولا تكاد تتوقف ابدا... أفكار تطغى عليها السلبية، والتشاؤم...فيا لها من لحظة قد يضطر الانسان فيها لسماع خبر مدو على مسامعه، له وقع سقوط كوكب من السماء، الى الارض بسرعة الضوء... كان من الصعب عليه ان يجد مساحة للتفاؤل ...لكنه ظل متمسكا ببصيص امل... وظل طوال فترة انتظاره يتفحص عقارب الساعة التي علقها في معصمه...يتابع حركتها وهي تسعى، وكأنه يستحثها على ان تسرع الخطى والدوران... هو لا يعرف تحديدا كم عدد المرات التي حملق فيها بميناء ساعته، لكنه شعر بأنها تزيد على مئة مرة... وقد تقاربت تلك النظرات الفاحصة في ربع الساعة الأخير، التي بدت فيها حركة عقارب الساعة له ابطأ من أي وقت مضى على الاطلاق... كان ينظر اليها نظرة فاحصة تلو الأخرى، تتبعها ثالثة ورابعة وخامسة وأخرى، وأخرى... وما ان وجدها قد ارتسمت في وضع يشير الى اقتراب الموعد وانتهاء مدة الانتظار حتى تحرك راجعا باتجاه الشرق نحو المختبر، واتخذ من اجل الوصول الى هناك طريقا مستقيما... سار بهمة وسرعة غير معهودة لديه منذ زمن متجها نحو المكان، وما ان اجتاز باب المختبر حتى وجد الممرضة ذاتها تستقبله وكأنها كانت في انتظاره...وباشرت فورا في قراءة نتائج الفحوص له...واحد تلو الاخر وهي تصفها بالممتازة في كل مرة حتى وصلت الي الصفحة الأخيرة التي بدى له انها جعلتها الأخيرة عن قصد وسابق تخطيط...وبعد تردد لم يطل بادرته وهي تحملق في الورقة الأخيرة بالقول كل نتائج الفحوص عندك ممتازة...ولكن؟؟!! وما ان سمع كلمة لكن هذه حتى كاد قلبه يسقط بين رجليه...وسمع نفسه يتمتم بكلمات يا ساتر...يا رب سترك... وتابعت هي الحديث لكن فحص الغدة الدرقية يشير الى كسل شديد، ونقص رهيب في افرازاتها. وشرحت له بأن النسبة الطبيعة لهرمون الـ HTS في الانسان العادي السليم يجب ان لا يتجاوز الرقم 5...وهو في دمك ارتفع ليتجاوز المائة...واكدت له ان الماكنة التي تقيس هذا الهرمون والذي يؤشر على نشاط الغدة الدرقية او كسلها توقفت في قراءتها عند الرقم 100 لأنه اعلى مقياس مسجل عليها مما يعني ان نسبة الهرمون في دمك تزيد حتما عن قدرة الماكنة على القياس وهو امر غريب قلما يحصل...وتابعت وهو منصت باهتمام...وذلك يعني أنك كنت تعاني من كسل الغدة الدرقية منذ فترة طويلة جدا ربما؟؟!! وفي تصوري ان سبب كل ما اصابك وجرى لك كما في قصتك التي قصصت علي، يعود لنقص جسيم في هرمون الغدة الدرقية... وهذا يعني أنك كنت ضحية لخطأ في التشخيص...خطأ شنيع ومستهجن...فالعلاج بسيط... وبسيط جدا... لجمته المفاجأة...فلم ينبس ببنت شفة...ولم يعرف أيفرح ام يحزن لهذا الخبر الصادم، المزلزل...الذي يبدو مرعبا ... عاد بذاكرته الى الوراء، يستعرض في ثوان شريط ذكرياته المريرة مع المرض ...يا إلهي؟؟!! ...عشر سنوات من الألم والمرض والكآبة والخوف... والسبب في كل ذلك كما تقول ربما يعود الى كسل الغدة الدرقية؟؟!!...وشتم في سريرته حظه النحس، وكل الأطباء الذين زارهم خلال رحلته الطويلة مع المرض...وشعر بأسى شديد على سنوات عمره التي هدرها في دهاليز المرض والخوف والكآبة ... كان هول المفاجأة عليه ساحقا ماحقا للوهلة الأولى، فهذه صدمة من العيار الثقيل كاد ان يسقطه أرضا... لكنه ما لبث ان استجمع قواه وابتسم في قرارة نفسه حينما تذكر ان ذلك ربما يفسر كل وساوسه ومآسيه وآلامه، ويعني باختصار انه ليس في طريقه الى فقدان السيطرة... وقبل ان يعود الى المنزل مر على حلويات شهرزاد في آخر شارع فلسطين...وابتاع منها طبق من الكنافة النابلسية الشهيرة... أراد ان يحتفل مع اهله بالخبر الكارثي الذي وضع نهاية سعيدة لمآسيه واغلق الى غير رجعه باب خشيته من الجنون...
لا يسمح بنشر هذا الموضوع إلى المواقع الأخرى الا بذكر اسم صاحب الموضوع ومصدره الأصلي ../
الـموضـوع ://: :
خطأ في التشخيص - قصة قصيرة
-||-
المصدر :
قطرات أدبية
-||-
الكاتب :
ايوب صابر التعديل الأخير تم بواسطة ايوب صابر ; 17-01-17 الساعة 09:59 AM |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
15-01-17, 04:04 PM | المشاركة رقم: 2 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
كتمت انفاسي و خصوصا بان هذه الايام محاصرة انا بالمستشفيات من سقوط ابن اخي من الطابق الثاني حتى هبوط سكر زوج اختى و اخير ختمها ورم مجهول الهوية لابن اخي الكبير ادى الى اسوداد الايام و غياب مباهجها وتشتيت افكارنا |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
15-01-17, 07:03 PM | المشاركة رقم: 3 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
شكرا نسيان على المداخلة وكان الله في عون ضحايا الاطباء والتشخيص الخطأ |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
16-01-17, 10:47 AM | المشاركة رقم: 4 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
|
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
17-01-17, 01:11 AM | المشاركة رقم: 5 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
شكرًا متاهة الاحزان |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
17-01-17, 07:13 PM | المشاركة رقم: 6 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
قراءة القاص والكاتب والناقد ياسر على للقصة " خطأ في التشخيص" : |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
18-01-17, 06:38 PM | المشاركة رقم: 7 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
اقتباس:
كن عزيزا راقني النص. حماك الله |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
18-01-17, 06:58 PM | المشاركة رقم: 8 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
[justify][/justify][justify] بدايةً أحييك أخي القدير وأبارك لك هذا العمل الجميل هنا وجهودك الجبارة في القصة والبحث الأدبي المثري الذي تقوم به كجهد مبارك وكحركة أدبية ثقافية جليلة ، وأثني على علمك في هذا المجال وعطاؤك الوافر كمطر يهطل ليغسل التراب العالق على جدران الأمكنة ، ففي زمن سيطرة التقنية السريعة ومواقع التواصل الإجتماعية افتقدنا العلاقة الجميلة بين الكتاب والعمل الأدبي الجميل في خضم الكم الهائل من السفاسف التي تطغى في الانتشار سواء على الشبكة العنكبوتية أو الإعلام المرئي . وبعد اسمح لي أن أغوص في ثنايا النص ليس كناقد أدبي فأنا لست كذلك وإنما كمتذوق لعمل أدبي يجذبني الإبحار والغوص فيه بحثاً عن اللؤلؤ والمرجان . --------------------- خطأ في التشخيص العنوان جميل لكنه مسبقاً يعطينا نبذة مختصرة عن مضمون ما سنقرأه وهذا جميل لا يعيب القصة في أي شيء ولو كان مبهماً أكثر لزاد من تشويق القاريء للبحث في ثنايا القصة عن سبب الصراع الداخلي وأعطى أكثر من احتمال للنهاية وهذا يرجع لوجهة نظر شخصية في التشويق والحماس أثناء القراءة ولربما لا ينطبق على هذا النوع من الفن الأدبي الذي تعمدته في كتابتك ولكن هي رؤية شخصية مني كمتذوق . عبر احمد البوابة الزجاجية الي غرفة الانتظار في مختبر المدينة الطبي وهو متردد وغارق في الهم والتفكير في مشاكله الصحية التي كادت ان تكتسب مع الأيام صفة المرض المستعصي والمزمن رغم مراجعاته المتكررة للأطباء الذين تعددت مجالات تخصصهم ومشاربهم. سرد متسلسل وشيق وجميل أعجبتني الدقة في الوصف للمكان والعمق النفسي واستشعرت البعد الزمني وحين قرأت هذه المقدمة قفز لذهني أنني أمام شخصية وسواسية متوهمة تختلق المرض وتعيشه واقع . كانت ملامح الخشية من نتيجة فحص الدم ترتسم على محياه، وتثير جهازه العصبي، فبدى في لحظتها متوترا فوق العادة، فهو يكره لون الدم، ووخز الابر، بل هو يمقت كل ما يمت الي الطب والأطباء بصلة، وهو موقف غير اصيل لديه، لكنه اكتسبه مع الأيام لعجزهم عن مساعدته وعلاجه، ورغم ان هذه ليست اول مرة يجري فيها فحص دم، لكنها اول مرة يجري فيها مثل هذا الفحص الاستكشافي الشامل، وهو متوجس خيفة وهو يستشعر كل الاحتمالات المفتوحة على مصارعها. هنا تحول فهمي من كون أحمد شخصية وسواسية تتوهم المرض إلى أنه شخص يعاني رهاب المرض والأطباء والمستشفيات وكونه لديه ( فوبيا المرض ) مما جعلني في شوق لمعرفة هذه الشخصية وحقيقة الأمر فبدت الحالتان متداخلة وأردت التعمق بالنص أكثر لأكتشف ماخفي من أمر أحمد . بالأمس كان قد حسم امره بإجراء هذا الفحص دون الرجوع الى الطبيب هذه المرة، وعلى الرغم ان أحدا حوله لم يشجعه على ذلك، هنا بالتحديد أجد تحول قوي في شخصية أحمد المرتاب من المرض والمليء بالأوهام من غير دافع واقعي فهو حسم أمره من دون أي دعم طبي أو دعم عائلي وهذا يثير تساؤل يفتقد الإجابة من داخل النص ويفتح نافذة لا زجاج لها والسؤال ماهو وضع أحمد النفسي وماهي قناعاته وهنا نجد الشخصية واضحة من الخارج من حيث التصرفات ولكنها مبهمة من الداخل من حيث طبيعة الشخصية النفسية وكيفية اتخاذ القرار ، فالقرار الذي تم اتخاذه من قبل الشخصية غير مدعوم إذن ما الدافع الذي حركه هنا ؟! مستذكرا كيف ان طبيب الاسرة كان قد زجره حينما طلب منه إجراء فحص دم شامل له قبل سنوات، ونصحه الطبيب حينها بممارسة الرياضة، وان يبعد عن نفسه الأفكار السوداء، مفندا رايه بانه لا حاجة لشاب مثله، يبدو بكامل صحته، ولياقته البدنية بذلك الفحص...فمثل تلك الفحوص تجرى لمن اكل الدهر على محياهم وشرب...ولمن زحفت على رأسه جيوش الشعر الأبيض...او على الأقل من ظهرت على قسماته اعراض الاصفرار والتعب والمرض، وهو لا يظهر عليه أي من تلك المظاهر المرضية ابدا تجسيد جميل لنموذج سيء من الأطباء ويسلط الضوء على معاناة الكثير من الناس بمختلف الشرائح مع أطباء يحملون شهادات بالاسم فقط لأن الطبيب الحقيقي هو من يؤكد على أهمية الفحص الدوري سواء لشاب مفعم بالنشاط أو كهل غزى سواد رأسه البياض ، مهنة الطبيب البحث عن المرض وتشخيصه بشكل دقيق وليس الحكم الظاهري على الشخص . ...بل على العكس، يبدو رياضيا مفعما بالحياة، ومظهره اقرب الى مظهر ابطال كمال الاجسام، تعلو وجنتيه حمرة ملفتة .... في هذه العبارة نجد ما يشعل الشك في داخل كل قاريء حول ماهية حالة أحمد الشخصية محور القصة وفي نفس الوقت يصف حاله بشكل دقيق ويعطي صورة تخيلية لمدى قلقه حيال ما يبدو عليه ومايشعر به ولكننا في نفس الوقت نجد هذا الوصف يغالط الواقع الحقيقي حيث أنه في النهاية اتضح أن لديه خلل في الغدة الدرقية وفي الواقع لا يمكن لمن يكون لديه خلل في الغدة الدرقية أن يبدو في صحة جيدة في ظاهره وخصوصاً أن الكاتب أكد أن الشخصية تعاني المرض منذ سنوات والقصة ليست حول محور خيالي أو افتراضي بل هي قصة واقعية تجملت بالصور الجمالية المطلوبة والتي جسدها الكاتب ولكن يبقى هذا الخلل واقع لعدم تناسب القصة مع الواقع رغم أنها واقعية . هنا تم تغيير مسار القصة الواقعية في مداخلة خيالية بهدف إضافة التشويق أو خدمة الغرض الأساسي ولكن هذا أخل بمنطقية الحدث أمام قاريء لديه معلومات طبية ويتابع تسلسل حدث القصة كواقع ملموس . وها هو اليوم يجد نفسه مترددا في عبور تلك البوابة، يقدم رجل ويؤخر أخرى، وكأنه يخطو عبرها من عالم الصحة الي عالم المرض والالم والمستشفيات...فمن يدري ماذا ستظهر تلك الفحوصات؟؟!! فعلى الرغم انه دائما ما كان يواجه بصيحات الاستهجان حينما يشتكي، هو يشعر في قرارة نفسه بأن خطأ ما يلم ويعصف به منذ سنوات طويله، تزيد على العشرة، ومنذ ان كان في سنته الجامعية الأولى. يعود أحمد النفس الحائرة للصراع بين ما يشعر به وما يواجهه أثناء رحلة البحث عن علاج لما يشعر به ويعود القاريء ليجد أنه يشتاق لمعرفة الحقيقة وهذا تشويق جميل يخدم أغراض القصة رغم أن سنوات المرض التي تزيد عن عشرة في الواقع لابد أن يظهر على صاحبها من الناحية الظاهرية عرض واضح هذا من الناحية الطبية ولكن يعود القاريء ليتصور أن أحمد شخصية متوهمة وليس لديه أي أعراض مرض غير الوهم ويصدق الطبيب الذي نفى مرضه . لكن أثر ذلك الشعور المرضي المخيف تفاقم مؤخرا بشكل مرعب وغير مسبوق، ولم يعد يصدق وكما قالوا له انها مجرد أوهام، ووسواس، وتصورات يخترعها عقله الذي لا ينفك هذه الأيام يفكر بالمرض؟؟!! وهي اتهامات كان يسوقها حتى أقرب الناس اليه ولطالما ضاعفت المه، وافقدته الثقة بكل شيء، وجعلته يفكر بينه وبين نفسه، بأنه ربما يكون فعلا مريضا نفسيا، وكان اشد ما يخشاه وسره الدفين الذي قبره في ثنايا صدره، هو فقدانه للسيطرة على نفسه، السائرة على ما يبدو في درب الجنون لتصل به في نهاية المطاف الى مستشفى الامراض النفسية والعصبية او الانتحار. مزيد من التأكيد على وسواسية أحمد وأن ليس لديه مرض وينجرف القاريء أكثر وراء فهمه وانطباعه الأول أن أحمد ليس مريض وإنما هو شخص متوهم . رغم أنه لديه مرض حقيقي وكنت أفضل كقاريء أن يكون المرض مبهم واكتشافه أصعب مما ظهر في نهاية القصة لأن هذه الفقرة تصور صراع داخلي قوي وصراع مع محيط الشخصية أقوى وهو الذي أدى به إلى الصراع الداخلي لدرجة الشك في مصداقية الذات . وما ان دفع الباب ليعبر بوابة المختبر حتى دق الجرس المخصص لمثل هذه الأماكن العامة مشعرا من بالداخل عن وصول مراجع جديد... بادرته الممرضة المكتنزة التي برزت له مبتسمة من غرفة جوانيه، واضح ان رنة جرس الباب لفتت انتباهها له، وبادرته بالسؤال عن حاجته وكيف يمكنها ان تساعده؟ وصف دقيق لتفاصيل المكان تجسد حالة دقيقة من الترقب لشخص في حالة معاناة ، وفضلت لو أنك استخدمت كلمة ( داخلية ) بدلاً من ( جوانية ) لأنها كلمة عامية أكثر من كونها فصيحة تناسب لغة القصة ، وكذلك كلمة ( واضح ) ، وجدت اللغة هنا انتهجت نهج عامي أكثر من الفصيح ولا أدري هل هذا غرض متعمد من قبل الكاتب أو أنها جاءت بشكل يوحي بواقع الحدث أكثر لتصوير بيئة الحدث ؟! - فأخبرها برغبته في اجراء فحص دم شامل...فاستفسرت عن تحويلة الطبيب فرد عليها بأنه لم يأت بواحدة لأنه يريد اجراء فحص روتيني استكشافي شامل... فأمسكت الممرضة بقلمها ودونت في ورقة نموذج طبي امامها أنواع الفحوص التي قررت ان تجريها له بعد ان سألته عن شكواه؟ - فرد عليها بأنه يشعر بإرهاق وتعب شديد وشبه دائم، ولا يكاد يستيقظ من النوم، كما انه يشعر بأوجاع هنا وهناك، وأشار لها نحو نقاط محددة على رجليه ويديه ومفاصل عظامه... وقص عليها باختصار شديد قصته الطويلة والمؤملة مع المرض، والوهم، والوسواس القهري الذي اتهموه فيه حتى كاد ان يسلم له امره... تلك القصة التي تعود بداياتها الى عشر سنوات، مضت من عمره دون ان يشعر فهيا بطعم السعادة والهناء... العمل الأدبي هنا من الناحية الأدبية جيد جداً ولكنه من الناحية الواقعية لقاريء يعي مجريات الأمور سيجد خلل في سياق الحدث وذلك لأن الممرضة دونت الفحوص التي من المقرر أن يجريها وبعد ذلك سألته عن شكواه والسياق الطبيعي للحدث في الواقع أن تسأله عن شكواه وتسمع منه حتى النهاية ثم تدون وتقرر ما يحتاج من فحص . وعاد أحمد ليكرر عبارة عشر سنوات والتي كان في البداية تزيد عن عشر سنوات ، الخلل في التسلسل الواقعي للحدث يفقد النص نكهته خاصة أنه نص يستند على حدث واقعي ومعاصر . بل سيطرت عليه خلالها مشاعر الكآبة والمرض والالم واليأس ومخاوف من فقدان السيطرة، وربما الانزلاق في متاهات الجنون... واخبرها كيف انه أصبح مع مرور الزمن...على وشك فقدان عقله لولا انه احتفظ في ثنايا قلبه ببصيص امل لعله يخرجه يوما ما من هذه الدوامة شديدة العتمة والبؤس... وصار لا بد له ان يطمئن بعد ان تفاقمت حالته...فلعل وعسى ان يسعفه هذا الفحص ويخلصه من ذلك المأزق السرمدي...خاصة ان قراءاته الأخيرة في مواقع البحث على الشبكة العنكبوتية فتحت له نافذة من التفاؤل وضاعفت من قوة شعاع الامل الكامن في قلبه، حينما قرأ عن حالات مرضية لها نفس الاعراض التي ظل يشعر بها طوال تلك المدة التي قاسا فيها الامرين... تجسيد معاناة أحمد مبالغ فيها ولعل المبالغة جاءت كهدف جمالي في القصة لصياغة الحبكة المرجوة من القصة والتضخيم يعتبر أداة جيدة لتوضيح الصورة المطلوبة وإيصال الهدف من القصة للقاريء ولكن كون أحمد يشعر خلال عشر سنوات أو أكثر منها بقليل بأعراض المرض ويعاني كل هذه الآلام ولم يجد أذن صاغية فهذا يعطينا منحى آخر للقصة وهو الآلام الذاتية التي قد يعيشها شخص ما وحيداً دون أن يجد من يسانده سوى الهواجس والمخاوف التي تتسلسل إليه من خلال كل فكرة تطرأ عليه ولا أدري هل الكاتب أراد تجسيد معاناة النفس الداخلية وتصوير الروح الحائرة أم أنه أراد الحدث الواقعي للصراع الدائر بين الشخصية والمرض الواقعي ؟! وما ان انتهت الممرضة من الكتابة حتى اشارت اليه بالدخول الي الغرفة الصغيرة المجاورة... فسار باتجاه الغرفة بتثاقل، وما لبث ان استدار بوجهه نحوها بعد ان سار مبتعدا عنها خطوتين او ثلاثة خطوات على الأكثر، ونبهها ان تهتم أكثر ما تهتم بفحص الغدة الدرقية لغرض في نفسه... وصف دقيق أجاد فيه الكاتب لتجسيد الحدث الذي لا يأخذ من الزمن بضع دقائق وتمنيت أن يكون الاهتمام بالتفاصيل الواقعية أكثر دقة حيث أن الممرضة ليست هي من يجري الفحص لأن المختبر في الواقع يكون ضمن مسؤولية أخصائي أو أخصائية المختبر وإنما يقتصر عمل الممرضة على سحب العينة أو التجهيز لذلك لأن القاريء الآن أصبح أكثر وعي بالتفاصيل الواقعية مما سبق . عبر الى غرفة الفحص وجال ببصره فيها بنظرات فاحصة سريعة، فوجدها غرفة صغيرة اشبه بزنزانة أحد السجون، لا يوجد فيها سوى كرسي واحد مخصص لجلوس مرضى فحوص الدم، والى جوارها خزانة خشبية مطلية باللون الأبيض، تملأ رفوفها أدوات طبية متنوعة...قطن، وشاش، ومطهر، وقناني صغيرة لتخزين الدماء المسحوبة لحين نقلها الى ماكينات الفحص داخل المختبر، وعلى جدار الغرفة المجاور لموقع الكرسي يوجد مسمار وحيد دق في الحائط وعلق عليه حبل مطاطي مخصص لشد اليد لزوم ابراز الاوردة لتسهيل علمية سحب الدم ... تفاصيل جميلة أضفت الواقعية للنص بشكل جميل وتبحر بالقاريء لاستشعار الحدث ويكاد يخشى ما يخشاه أحمد . لم يطل انتظاره هناك فما ان انتهى من رفع كم قميص يده اليمنى، وكشف عن ساعده حتى بادرته الممرضة بقولها وهي تقف الى جواره ممازحة... -تبدو شاحبا هل تخشى الابر ام هو منظر الدم؟؟ ووعدته بأن تكون يدها خفيفة، وان لا يشعر بالألم، وما عليه الا ان يسترخ هو ويساعدها على انجاز المهمة بسرعة ويسر... سلمها يده مكرها، واشاح بوجهه الي الجهة الأخرى، وتنفس تنفسا عميقا، وحاول ان يكتم نفسه لعل ذلك يساعده في عدم الشعور بألم وخزة الابرة كما اعتاد ان يفعل في مثل هذه المواقف...وما هي الا ثوان قليلة حتى فكت الممرضة الحبل الذي لفته حول ساعده، وغطت مكان وخزة الابرة بقطعة بلاستر معقمة...واخبرته ان المهمة أنجزت بسلام وطلبت منه ان يعود للحصول على النتائج بعد ساعتين على اقل تقدير... أحداث متسلسلة ووصف جميل ودقة ولغة جميلة ولكن نعود لمشكلتنا حول تناسب لغة الحدث الواقعية مع أحداث القصة حيث أنه من غير الممكن أن تكون نتيجة الفحص الشامل ساعتين في الحياة الواقعية !! فحص الغدة الدرقية في أي مختبر يكون في اليوم التالي لتحصل على نتيجة دقيقة وسليمة وكذلك صورة الدم الكاملة ، لو كان القاريء ملم ببعض المعلومات الطبية نتيجة مرض ألم به أو مرافقة أحد ذويه في هذه التفاصيل لأدرك أن مايقرأ حبر على ورق والجميل في القصة أن تنقلك من فوق الورق إلى الرؤية والمعايشة للحدث فتعيش التفاصيل وكأنك أحد الشخصيات أو تلامس فيك جزء من حياتك . غادر المختبر وهو يتحسس مكان الابرة، يفكر ويسأل نفسه كيف سيقضى كل هذا الوقت وهو بانتظار نتائج هذا الفحص المصيري؟ وتمتم في نفسه...ياه ...الساعتين تكونان بطول سنتين ما دام الامر يتعلق بحالة انتظار نتائج فحص دم ربما يأتي بنتائج كارثية، مرعبة ...فمن يدري؟! لم يشأ ان يعود الي المنزل...اراد ان يعرف نتائج فحص الدم أولا...وصار يدور في شوارع المدينة على غير هدى، يحاول قتل الوقت الذي اخذ بدوره يدور ببطء شديد لم يشهد له مثيل من قبل... اتجه أولا نحو الشرق وسار حتى وصل الى دوار جمال عبد الناصر الذي هو مركز السوق التجاري ونقطة استقطاب تجار المدينة والمتسوقين، وهو قلب المدينة النابض... ومن هناك اتجه غربا عبر شارع فلسطين، ثم انعطف الى شارع سفيان، وشارع العدل، ثم اوغل في الاتجاه غربا حتى وصل الى منتزه البلدية، لعل المكان بأشجاره الوارفة، وسحر الطبيعة، وخضرة العشب الذي يغمره واصوات العصافير التي تسكن على الأشجار والعاب الأطفال ومرتادي المكان تسري عليه همه، وتخفف عنه وطأة الانتظار والزمان الذي بدى له سرمديا، وصار يستعجل انقضاؤه بصبر وملل وخشية وتحسب... تجسيد دقيق لحالة الانتظار القاتلة والاستغراق في التفاصيل يوغل في الوصف ولكن قد يكون على حساب النص من ناحية الاسهاب . كان يسلي نفسه اثناء سيره في شوارع المدينة بالنظر في بترينات المحلات التجارية، ويستمع لأصوات الباعة المتجولين...يمعن النظر بوجه هذا، ويشيح بوجهه عن ذاك...يحاول جاهدا ان يشغل نفسه عن التفكير بفحص الدم ونتائجه، وعن قصته مع المرض والالم، وكل الاحتمالات التي قد يجد نفسه مضطرا للتعامل معها في لحظة حقيقة مدوية...لكن الافكار كانت تدور هي أيضا في رأسه كحجارة الرحى...تتوالد كالأفاعي، تتلوى في جحورها ولا تكاد تتوقف ابدا... أفكار تطغى عليها السلبية، والتشاؤم...فيا لها من لحظة قد يضطر الانسان فيها لسماع خبر مدو على مسامعه، له وقع سقوط كوكب من السماء، الى الارض بسرعة الضوء... الغرق في التفاصيل أكثر جاء على هيئة سرد عارض الواقعية بتوالد الأفاعي التي تبيض لا تتوالد رغم جمال الغرق في تفكير المفكر . كان من الصعب عليه ان يجد مساحة للتفاؤل ...لكنه ظل متمسكا ببصيص امل... وظل طوال فترة انتظاره يتفحص عقارب الساعة التي علقها في معصمه...يتابع حركتها وهي تسعى، وكأنه يستحثها على ان تسرع الخطى والدوران... هو لا يعرف تحديدا كم عدد المرات التي حملق فيها بميناء ساعته، لكنه شعر بأنها تزيد على مئة مرة... وقد تقاربت تلك النظرات الفاحصة في ربع الساعة الأخير، التي بدت فيها حركة عقارب الساعة له ابطأ من أي وقت مضى على الاطلاق... كان ينظر اليها نظرة فاحصة تلو الأخرى، تتبعها ثالثة ورابعة وخامسة وأخرى، وأخرى... وما ان وجدها قد ارتسمت في وضع يشير الى اقتراب الموعد وانتهاء مدة الانتظار حتى تحرك راجعا باتجاه الشرق نحو المختبر، واتخذ من اجل الوصول الى هناك طريقا مستقيما... تجسيد الصراع مع الوقت جميل رغم عدم انتظام الترادف ولكنه تجسيد جميل للصراع مع الوقت في جانبه السلبي وهو الانتظار . سار بهمة وسرعة غير معهودة لديه منذ زمن متجها نحو المكان، وما ان اجتاز باب المختبر حتى وجد الممرضة ذاتها تستقبله وكأنها كانت في انتظاره...وباشرت فورا في قراءة نتائج الفحوص له...واحد تلو الاخر وهي تصفها بالممتازة في كل مرة حتى وصلت الي الصفحة الأخيرة التي بدى له انها جعلتها الأخيرة عن قصد وسابق تخطيط...وبعد تردد لم يطل بادرته وهي تحملق في الورقة الأخيرة بالقول كل نتائج الفحوص عندك ممتازة...ولكن؟؟!! وما ان سمع كلمة لكن هذه حتى كاد قلبه يسقط بين رجليه...وسمع نفسه يتمتم بكلمات يا ساتر...يا رب سترك... وتابعت هي الحديث لكن فحص الغدة الدرقية يشير الى كسل شديد، ونقص رهيب في افرازاتها. وشرحت له بأن النسبة الطبيعة لهرمون الـ hts في الانسان العادي السليم يجب ان لا يتجاوز الرقم 5...وهو في دمك ارتفع ليتجاوز المائة...واكدت له ان الماكنة التي تقيس هذا الهرمون والذي يؤشر على نشاط الغدة الدرقية او كسلها توقفت في قراءتها عند الرقم 100 لأنه اعلى مقياس مسجل عليها مما يعني ان نسبة الهرمون في دمك تزيد حتما عن قدرة الماكنة على القياس وهو امر غريب قلما يحصل...وتابعت وهو منصت باهتمام...وذلك يعني أنك كنت تعاني من كسل الغدة الدرقية منذ فترة طويلة جدا ربما؟؟!! وفي تصوري ان سبب كل ما اصابك وجرى لك كما في قصتك التي قصصت علي، يعود لنقص جسيم في هرمون الغدة الدرقية... وهذا يعني أنك كنت ضحية لخطأ في التشخيص...خطأ شنيع ومستهجن...فالعلاج بسيط... وبسيط جدا... سرد لحظات حاسمة توافقت الحالة النفسية والحدث ووالواقع ولكن في النهاية قالت الممرضة أن سبب ما أصاب أحمد هو خطأ في التشخيص في حين أن أحداً من الأطباء لم يشخصه أبداً كمريض بل من البداية حتى اللحظات الأخيرة وهو يبدو شخص متوهم المرض ويعاني من الوسواس ليس لديه أي مرض ولم يقل له أي طبيب أن تعاني من أي شيء .. وحسب نتائج التحليل الصادمة فلابد أن يكون هذا الشخص يعاني من عرض واحد على الأقل ظاهر . لجمته المفاجأة...فلم ينبس ببنت شفة...ولم يعرف أيفرح ام يحزن لهذا الخبر الصادم، المزلزل...الذي يبدو مرعبا ... عاد بذاكرته الى الوراء، يستعرض في ثوان شريط ذكرياته المريرة مع المرض ...يا إلهي؟؟!! ...عشر سنوات من الألم والمرض والكآبة والخوف... والسبب في كل ذلك كما تقول ربما يعود الى كسل الغدة الدرقية؟؟!!...وشتم في سريرته حظه النحس، وكل الأطباء الذين زارهم خلال رحلته الطويلة مع المرض...وشعر بأسى شديد على سنوات عمره التي هدرها في دهاليز المرض والخوف والكآبة ... كان هول المفاجأة عليه ساحقا ماحقا للوهلة الأولى، فهذه صدمة من العيار الثقيل كاد ان يسقطه أرضا... لكنه ما لبث ان استجمع قواه وابتسم في قرارة نفسه حينما تذكر ان ذلك ربما يفسر كل وساوسه ومآسيه وآلامه، ويعني باختصار انه ليس في طريقه الى فقدان السيطرة... عودة للحوار الداخلي الذي تم تصويره في هذه القصة بطريقة جميلة ومتقنة ولكن يبقى أمامنا عائق عدم تناسق الحدث الواقعي مع حدث القصة الواقعية وهذا مايفقد تسلسل الحدث جماله وانسيابيته الأدبية . وقبل ان يعود الى المنزل مر على حلويات شهرزاد في آخر شارع فلسطين...وابتاع منها طبق من الكنافة النابلسية الشهيرة... أراد ان يحتفل مع اهله بالخبر الكارثي الذي وضع نهاية سعيدة لمآسيه واغلق الى غير رجعه باب خشيته من الجنون... كانت معاناة أحمد مع الأطباء وكل من حوله ويستشف القاريء المتفحص أن أهله هم ضمن الدائرة التي تسببت في تفاقم حالته النفسية لعدم وجود لهم أثر إيجابي في القصة وهو الذي يعاني منذ البداية وحيداً ويدور في دائرة مغلقة من الهم والشك والوسواس وبالرغم من هذا هو يذهب بالنهاية ليحتفل مع أهله فهل يكون هذا ضمن خلل الواقعية في القصة أم أنه أمر متعمد لإظهار كم الفرح الذي يطغى لجعل الشخص يتجاوز عن كل شيء ..؟! [/justify] |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
18-01-17, 07:19 PM | المشاركة رقم: 9 | ||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
راقتني الدراسة المتأنية جدا ، دمت مجتهدا. اقتباس:
لكن أحب البدائل: ربما : تشخيص التشخيص |
||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
19-01-17, 01:21 AM | المشاركة رقم: 10 | |||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
|
كاتب الموضوع :
ايوب صابر
المنتدى :
قــطــرات الـقـصـة والروايــة
شكرًا استاذة ريمه الخاني |
|||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||||
الأعضاء الذين آرسلوا آعجاب لـ ايوب صابر على المشاركة المفيدة: |
أنت عضو منتدى قطرات أدبية فاجعل ردك يعكس شخصيتك ومدى ثقافتك و وعيك وإطلاعك
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
(عرض الكل) الاعضاء اللذين قامو بقراءة الموضوع : 12 | |
متاهة الأحزان, مشاعر انثى, منير, المَنْتَهيـےَ, الحمداني, ايوب صابر, ريمه الخاني, روح الياسمين, عبدالرحمن منصور, نادية الجعبة, نسيان, نزف القلم |
|
|
المواضيع المتشابهه | ||||
الموضوع | كاتب الموضوع | المنتدى | مشاركات | آخر مشاركة |
خواطر قصيرة جدا | الشاعر منصر فلاح | قـطــرات النـثـر و الخواطــر الأدبـيــة | 2 | 27-10-14 12:30 AM |
خرج و لم يعد ( قصة قصيرة ) . | كليو باترا | قــطــرات الـقـصـة والروايــة | 4 | 27-11-13 10:19 PM |
من المخطئ.. قصة قصيرة | عبدالعزيز | قــطــرات الـقـصـة والروايــة | 4 | 23-12-11 10:37 AM |
قصة قصيرة | غاده | قــطــرات الـقـصـة والروايــة | 18 | 26-06-10 07:51 PM |
(( قصة قصيرة جدا جدا )) | مالي غيرك | قــطــرات الـقـصـة والروايــة | 3 | 21-02-10 10:52 AM |
تعريب وتطوير شبكة بلاك سبايدر التقنية 16-10-2009 |
الساعة الآن 02:13 AM.