اثناء قراءتي وجدت هذه القصة للكاتب الكبير توفيق الحكيم وأعجبتني جدا درجة الحكمة لكاتبها و وطريقة العرض الطريفة الممتعة بينه وبين حماره مجازاً ,
أتركها بين ايديكم ,,
حماري والذهب
رأيت حماري ذات يوم مفكرا ((مهموما))..فجلست بجواره صامتا محترما ما هو فيه...إلى أن أحس بوجودي...فرفع رأسه نحوي...وجرى بيننا هذا الحديث:
الحمار:وأخيرا؟
الحكيم:وأخيرا ماذا؟
الحمار:مستقبلي,ألم تفكر في مستقبلي؟
الحكيم:عجبا !لأول مرة أسمع حمارا يتحدث عن مستقبله!
الحمار:ما وجه العجب؟ألست مخلوقا حيا يعيش خاضعا لقانون الزمن؟
أليس لي ماضٍ وحاضر ومستقبل مثل جميع المخلوقات والكائنات؟لقد عشت معك حتى الآن عاريا...لا سراج ذهب ...ولا برذعة مرصعة...ولا...
الحكيم:شئ جميل!..أهذا ما يشغلك الآن؟!.
الحمار:هذا ما يشغل اليوم كل إنسان,إن الناس كلها من حولنا تفكر في الذهب..وتعيش للذهب..وأنا وأنت قاعدان ننظر إلى القوم من علٍ متدثرين في أسمال أفكارنا وأطمار فلسفتنا..
الحكيم :فلنفترق إذن!..ما الذي يرغمنا على الحياة المشتركة؟..وعلى هذه الصحبة التي لا نجني منها غير سوء السمعة!..اذهب إذا شئت,وابحث لك عن صاحب من ذوي المال-وما أكثرهم اليوم-يغطي عريك المزعوم بالذهب والفضة.وسنرى بعد ذلك هل شعرت بالدفء حقا وعلى ظهرك ذلك الغطاء الثمين؟!
الحمار:وهل أنا شاعر بالدفء الآن وأنا عاري الظهر؟!
الحكيم:بالطبع,لو كان لك قلب يرف حرارة الإيمان.
الحمار:يا لهذه الكلمات!...إنك تكسوني بالكلمات..وتغذوني بالكلمات...ولا أجد شيئا عندك غير كلمات..
الحكيم:ولن تجد عندي شيئا غيرها.
الحمار:من سوء حظي!
الحكيم:اسمع..إني لا أطيق أحدا يحقر الأفكار والكلمات!..إن الكلمات هي التي شيدت العالم,إن محمداً (صلى الله عليه وسلم)لم ينشر الإسلام بالذب ,بل بالكلمات,وإن عيسى (عليه السلام)لم ينشئ المسيحية بالمال بل بالكلمات .الكلمات الصادقة والأفكار العالية والمبادئ العظيمة هي وحدها التي قادت الإنسان في كل أطوار وجوده..وبنت الأمم والشعوب في كل أدوار تاريخها.
...وعندما يظهر الذهب آخر الأمر ببريقه وربينه ..فاعل أن أوان الانهيار قد أن ..وأن هذا البريق سوف يذيب المبادئ بأشعته الساحرة.
الحمار:تريد من ذلك أن تقول إن الذهب عدو المبادئ؟
الحكيم:بلا شك,لأنه هو ذاته ينقلب إلى مبدأ خطير ينسي الناس المبادئ الأخرى الحقيقية السامية النبيلة ,فالمعنويات والمثل العليا فقدت قيمتها في سوق الذهب.الذهب أعمي بصائر الناس ولعب بعقولهم وقلوبهم إلى حد أنساهم أنفسهم ومدلول لغتهم..فغدا للناس قاموس جديد كل كلماته:الربح..الربح..والمال..المال..والثروة..الثرو ة..
الحمار:إذا كان هذا هو قانون العصر فلماذا تريد مني أن أخرج على القانون؟إني كائن عصري من واجبي أن أنضوي تحت لواء ((المثل الأعلى))المسيطر في زماني.وما دامت الأفكار والكلمات قد ذهبت بدعتها من عصرنا العملي فأنا كذلك أخلع عن نفسي تلك البدع القديمة.
الحكيم:أيها الحمار العصري..إن الأفكار والمبادئ ليست من البدع القديمة في الشعوب كافة..انظر حولك تجد شعوبا لم تزل تبذل دماءها سخية من أجل أفكار ومبادئ..فما هو الدافع الذي يدفع هؤلاء الملاين من الشباب الناظر إلى الجود بأرواحه ودمائه؟
أهناك دوافع آخر غير بضع كلمات؟نعم ..بضع كلمات امن بها فدفع فيها دمه الغالي.كلا,إن الأفكار والمبادئ ليست من البدع القديمة...إن الكلمات الصادقة العظيمة بخير..وهي لم تزل حافظة قوتها في كثير من الأمم والشعوب..وهي ما برحت جديرة أن تبذل في سبيلها المنهج والأرواح..قديرة على أن تثير في القلوب حب التضحية بغير ثمن..
الحمار: إنك لتدهشني.كيف استطاع عصر واحد أن يجمع هذا التناقض؟
دماء تسيل في مجرى..وذهب يجري في مجرى آخر؟!
الحكيم : لقد اجتمع الضادان في كل زمان..منذ فجر الخليقة والعظمة تسير إلى جانب الحقارة والسمو إلى جانب التدهور..والعلو إلى جانب الحضيض..ولكن العبرة أي اطريقين تختار لنفسك ولامتك؟
الحمار:إذا سألتني أن أختار لنفسي فإني...
الحكيم:انطق!
الحمار :دعني أفكر..فإنك تعلم أني لا أعطيك ثمرة إلا بعد ترو وتأمل..
الحكيم:مجرد التردد في الاختيار يجعلني أحكم عليك بأنك حمار..
الحمار:أتظن أني وحدي؟!اطرح سؤالك على الناس.وخيرهم بين المال والمبادئ..ثم احص بنفسك عدد المترددين...
الحكيم:اه,...والله ((غلب حماري))!..