اوجاع ليلة الدخلة
كان مصطفى قد أنهى بشغف وسرور كافة استعداداته لليلة الفرح التي سيدخل عبرها الى عالم الزوجية والسعادة والسكينة المفترضة، وصار في طريقه الى قاعة الافراح الافخم في فندق الحياة، تلك القاعة التي ستجمعه بعد قليل مع عروسة، حينما ينضم اليها في الكوشة لتزفه النساء كما هي العادة في مثل هذه المناسبات في محيطه الاجتماعي.
كان جمهورا حاشدا من الأقارب والمحبين والأصدقاء الشباب المدعوين قد سبقوه الى القاعة وهم ينتظرون وصوله بلهفة واضحة على الوجوه...احتشد الناس امام القاعة حينما اقترب موعد وصول العرسان المحدد في تمام الساعة السابعة من مساء يوم الخميس، المصادف لتاريخ ميلاده الثامن والعشرين والكائن في 1/7/2009، ذلك اليوم الذي اختاره هو وعروسه، بعناية وتخطيط مسبق، حتى يتمكن أكبر عدد من المدعوين حضور حفلة ليلة الدخلة، ويشاركوهما الفرحة بالزواج، وتكون الفرحة عدة افراح في ليلة اسطورية واحدة لا تنسى ابدا.
وما ان أطلت سيارة المرسيدس الفاخرة ذات اللون الرمادي اللامع، والمزركشة لمثل هذه المناسبات، والتي كان ابن عم للعريس قد تبرع بتوفيرها لتحمله ليلة عرسه، وجهزها بالورود والاشرطة ذات الألوان الحارة الأحمر والازرق والاصفر، والتي بدى انها قد صفت على هيكل السيارة بعناية فائقة ولمسة فنية واضحة لهذه المناسبة السعيدة...ما ان اقتربت السيارة اكثر فاكثر حتى اندفع الناس نحوها، وعلت الصيحات والاهازيج والاغاني الشعبية، وارتفع صوت الطبل الذي هز المكان بانغامه الجميلة السحرية، وحرك المشاعر، وأحدث جلبة وتسارعا في نبضات القلوب والدماء التي اندفعت في العروق، فتحركت الايادي تلقائيا تصفق بانفعال شديد وارتجفت الشفاه وهي تغني بحرارة بالغة، وفرح جامح في استقبال العروسان، حتى بدى ان بعض ما كان يجري في المكان هستيريا مبالغا فيه، وكأن قوة خفية او امرا غير معروف هو الذي يحرك الايادي، والحناجر ويتسبب في كل هذا الهرج والمرج والجلبة منقطعة النظير في مثل هكذا اعراس، وليس فقط الرغبة في الاحتفاء بالعريس، او عذوبة صوت نغمات الطبل التي تعالت فأتحفت الحشد وجعلته يرقص طربا ومسرة...
وما ان وصل موكب العرس وتوقف محرك سيارة العريسان امام قاعة الافراح، حتى اندفع والد العروس وأخيها الاكبر وامسكوا بيديها واحد من جهة اليمين، والأخر من جهة اليسار، والتف حولهم، عددا من الأقارب الاقربين رجالا ونساء واطفالا، وساروا جميعا الهوينا تجاه الكوشة، وسار خلف العروس طفلة صغيرة تلبس رداء برتقاليا، وكانت مهمتها رفع ما طال من فستان العروس عن الأرض...
وسارت العروس جهة القاعة وهي تتبختر بفستانها الأبيض الجميل بدلع ظاهر وسعادة، وتستند في مشيتها على والدها الذي ظهر عليه الانفعال والارتباك...وانطلقت الحناجر وارتفع صوت زغاريد النساء، ورنة صفق الاكف والاصابع...كل ذلك على الرغم من مسحة الحزن الجلية التي ظهرت على وجوه الحضور دون معرفة سبب واضح وجلي لذلك الحزن الذي ابى الا ان يرتسم على الوجوه في ليلة فرح اريد لها ان تكون استثنائية...
وفي نفس اللحظة اندفع الشباب ناحية العريس مرحبين ومهللين... تحركوا نحوه باندفاع وكأنهم بصدد اختطافه، هذا يصافحه مهنئا وهذا يقبله، والجميع حوله يرقص، ويغني ويصفق، وكأن الحشد تحول الى جوقة فنية في مهمة فرح غير مسبوقة...وما لبث ان حمله بعضهم على راحات اكفهم، واكتافهم وداروا به في الساحة حيث تشكلت حلقة من البشر المدعوين بصورة عفوية تلقائية لزفة العريس...
وتعالت أصوات الحشد مصحوبة بأنغام الطبل المرتفعة، وهم ينشدون ويغنون بفرح عارم...وكانت اول الأغاني التي انشدها المحتفيين بالعريس اغنية "طلع الزين من الحمام " تلك الاغنية التي يرددها الناس في ليلة الدخلة في كل انحاء فلسطين شمالا وجنوبا شرقا وغربا وحتى في الشتات وبلاد الغربة... وكأنها جزء اصيل من طقوس إتمام العرس الفلسطيني...ثم ردد الحشد اغنية أخرى وثالثة ورابعة...ومزجوا الأغاني الشعبية التراثية بالأغاني الحديثة...
بدى ان الجميع يشارك في زفة العريس بحماس وفرح حتى وصلوا الى اغنية تراثية هي الأخرى تبدو من طقوس العرس الفلسطيني رغم ايحاءاتها الجنسية الظاهرة " شنك ليلة شنك ليلة...الله يعينه على هالليلة" ...
وما ان انتهى الحشد من مراسم الزفة الشعبة حتى اتجه الجميع الى قاعة الرجال المجاورة... وهناك جلس العريس للحظات حتى يؤذن له بالدخول على عروسه وملامح الفرح والسعادة تغمره وتعلو وجنتيه...
ولم يطل انتظاره حتى جاءه من يبلغه بأنه مطلوب لينضم لعروسه على الكوشة...نهض من مكانه، وجال ببصره في المكان وكأنه يبحث عن وجه ويد والده عساه يرافقه الى الكوشة كما هي عادة الناس في مثل هذه المناسبات...ولكنه لم يجد سوى يد رجل عجوز من أبناء عمومته كان وقع عليه الاختيار للقيام بهذه المهمة كبديل عن والده المتوفي...
في هذه اللحظة زحفت على العريس مصطفى جيوش من الحزن والالم واغرقه طوفان من الشوق لوالده الميت الذي تركه وهو صغير ابن عشر سنوات فقط ...لقد طغى عليه فجأة احساس عارم بالفقد لم يشعر بمثله من قبل ابدا...حتى في يوم تخرجه من الكلية التي حصل فيها على المرتبة الأولى، وتمنى يومها لو ان والده كان الى جواره وهو يستلم شهادة التفوق في ذلك اليوم المشهود بظروفه الاستثنائية في ظل ظروف امنية صعبة نشأت يومها إثر استشهاد تسعة من الشباب المجاهد دفعة واحدة...مما ضاعف حينها احساسه الجارف بالفقد...
سار باتجاه الكوشة وهو يفتعل الفرح، ويرسم على شفته ابتسامة عريضة محاولا التخلص من ذلك الحزن الذي لفه، لكن الألم كان طاغيا وكاد ان يمزق احشاءه ويقطعه اربا...اربا...ووحش الحزن يفترسه ويسيطر عليه تماما...
وما ان جلس الى جوار عروسه على الكوشة حتى حاول من جديد ان يتخلص من ذلك الشعور الرهيب بالفقد واليتم وكل ما صاحبه من الم عبر السنين...لكن الشوق كان عارما...والالم طاغيا...وكأن براكين من الشوق والوجع قد تفجرت فجأة في احشاؤه ودون سابق انذار خرجت بحممها عن السيطرة...
وفجأة صار عقله مسرحا لصراع رهيب بين الفرح والحزن...لكن عيون والدته التي طفحت دموعا، وهي تحاول جاهدة إخفاء ما بدى ظاهرا، رغم محاولاتها المستميتة بان تداري دموعها وان تشغل نفسها بأمور العرس لعلها تلعب دورا ثنائيا تسري عليه وتملأ الفراغ الذي خلفه غياب الاب كما فعلت دائما خلال سنوات يتمه الطويلة، رجحت كفة الحزن الذي كاد ان يمزقه شر ممزق...
كان يبدو عليه الاستماع الى الأغاني وهي تصدح ويعلوا ضجيجها عبر مكبرات الصوت... وينظر الى مشهد النسوة امامه وهن يتراقصن ويصفقن ويتمايلن طربا وفرحا...لكن سمعه كان شاردا ونظراته كانت ساهمه ساهيه، ولم يكن يسمع او يرى سوى اعداد هائلة من الشفاه وهي تتحرك وعيون تبحلق تجاهه دون ان يعي ما تقول...اما الصورة الحقيقية التي ظلت مسيطرة على مخيلته، واجتاحت كيانه في تلك اللحظات، فكانت صورة والده وهو يسقط امامه مغشيا عليه بينما كان يقف خلفه وعلى بعد خطوات امام المغسلة في ذلك الصباح، وما لبث ان مات في طريقه الى المستشفى وهو في ريعان الشباب، ولم يتجاوز عندها الثامنة والثلاثين من عمره...نعم كانت الصورة المسيطرة هي صورة ذلك الحدث المزلزل الذي وقع في صبيحة ذلك اليوم الأسود المشؤوم والذي جرت احداثه قبل ما يزيد على العشرون عاما... ليعيش هو بعدها حياة اليتم بكل تفاصيلها وآلامها ومآسيها في ظل ام حانية نذرت نفسها لسعادته...
غادر مصطفى القاعة الى عش الزوجية بعد ان انفض الناس من حوله، وسكتت الاغاني... وكانت الاغنية الوحيدة التي علقت في ذهنه وهو يغادر المكان برفقة عروسه هي الاغنية الشعبية " شنك ليله شنك ليله الله يعينه على الليلة"...
كان في قرارة نفسه يشعر بأنه بحاجة فعلا لكل ما في الكون من عون في هذه الليلة التي امتزج فيها الفرح بالحزن، ليس لأثبات فحولته ورجولته، ولكن للسيطرة على مارد الوجع الذي يبدو ان لحظات السعادة والفرح قد أيقظته من سباته العميق ليطل برأسه من ثنايا الذاكرة السحيقة مفسدا عليه فرحته.