لا شك ان الاديب والكاتب يحتاج الي التواصل مع الاخرين بقدر حاجته للعزلة والانقطاع عنهم.
كثير من الكتاب يعتقدون ان الأفكار تحتاج كي تتوالد الي زنزانة او صومعة او غار او أي مكان ينعزل فيه الكاتب عن الناس وبحيث ينقطع عن الاخرين للتخيل وتوليد الأفكار الإبداعية.
وكثير منهم يصبح الانقطاع عن الناس عنده أقرب الي الهوس وكأن شخصية الكاتب الاديب لا تكتمل الا بغليون ولحية كثة وعزلة وانقطاع عن الاخرين وأحيانا سوداوية وكآبة.
لا أحد يشكك في أهمية العزلة للكاتب لبلورة الافكار، فمن بين أفضل الإنتاج الإبداعي ذلك الذي يولد في زنازين السجون، وهو ما يعرف بظاهرة ادب السجون، وهو يقترب في قوته وجزالته وبلاغته من أدب الايتام.
وكأن العزلة والانقطاع عن الناس له تأثير سحري على آلية عمل الدماغ بحيث تُطبخ الأفكار هناك في مرجل العقل الباطن، وتنضج هناك لتخرج على شاكلة ابداع مميز وعبقري.
ولا نعرف على وجه التحديد ما هي الالية الذهنية التي تعمل اثناء انقطاع الكاتب الاديب عن الناس في صومعته، لكننا حتما نعرف ان مثل تلك العزلة غالبا ما تأتي بمنتج ابداعي مهول ومن طراز عميق وفاخر وعلى شاكلة " هكذا تكلم زرادشت".
والمعروف ان هذا الكتاب وحسب ما صور لنا ذلك الكاتب في كتابه المذكور كان وليد انقطاع الكاتب الوجودي الكبير نيتشه على رأس جبل مع كلبه وصقره فقط، وهناك ولدت أفكاره وكتابه الخالد المذكور، ثم نزوله من صومعته الي المدينة ليعلم أهلها ما توصل اليه من أفكار وكان زرداشت عاد ليعلم الناس الحكمة.
وعليه فليس هناك شك في ان الانقطاع عن الناس والعزلة والانكفاء في صومعة تساهم الي حد كبير في بلورة الأفكار وتوليدها وبحيث تأتي المخرجات الإبداعية أثر ذلك من العيار العبقري الثقيل.
في نفس الوقت نجد ان كثير من الكتاب لا يدركون أهمية التواصل مع الاخرين، وعرضهم أفكارهم ومخرجاتهم الأدبية، والاستماع الي تعليقات الناس عليها وهو ما يسمى في مجال الكتابة الابداعية التغذية الراجعة feed back.
وسيجد الكاتب الاديب ان حوارا مع شخص او مجموعة من الأشخاص في مقهى يتجمع فيه الادباء ليتسامروا ويتبادلوا الراي، وتتلاقح الأفكار... او حتى امام فرن خبيز او في الشارع او موقف باصات...هو مصدر مهم جدا لنضوج الأفكار لديهم ومعين لا ينقطع لولادة أفكار جديدة يمكن ان تتطور الي اعمال إبداعية مبهرة.
وفي هذا العصر، عصر المعلومات والاتصالات المتطورة نجد ان منتديات الأنترنت قد وفرت ساحة مهمة لتلاقح الأفكار من مختلف الاصقاع والبقاع والبلاد والامصار، ووفرت للكاتب والاديب فرصة لا مثيل لها لتبادل الآراء والأفكار وعرض مخرجاته الأدبية على قطاع عريض من الناس، وبالتالي استلام تغذية راجعه ربما بشكل طوفاني، ومن كل حدب وصوب ومن اشخاص وعقول ما كان له ان يتواصل معهم لولا الانترنت وما توفره من فرص للتواصل.
لكننا للأسف الشديد نجد بأن ظاهرة العزلة والنأي بالنفس عن الاخرين تظل هي الأبرز عند الكتاب والادباء، ولذلك نجد ونلاحظ عزوف غريب عجيب من الكتاب المحترفين عن النشر في المنتديات والتواجد من على صفحاتها، وهو ما يحرم الكاتب أولا وقبل كل شيء من فرصة تلاقح أفكاره ونموها وتطورها وتوالدها بصورة تجعله يستفيد من هذه الفرصة لتوليد أفكار عظيمة وخالده.
وانا هنا انصح الكتاب المحترفين قبل الهواة ان يجربوا التواجد على صفحات الانترنت ونشر انتاجهم في المنتديات الأدبية، وان يوفروا لأنفسهم فرصة التواصل مع الاخرين، وبالتالي الاستماع لتغذيتهم الراجعة، وسيجدون انهم سيجنون فائدة عظيمة من هذا التواصل ... وربما تتفتق عقولهم عن منتجات لا تقل عبقرية عن " هكذا تكلم زرادشت".