خلال سنته الأولى في السجن عانى المحامي كثيراً من مآسي الوحدة والملل .. بدأ ذلك جليّاً عبر ما كان يدونه من مذكرات .. وكان صوت البيانو ينساب في هدوء من جناحه ليل نهار .. ورفض استقبال التبغ والشراب إذ أن الأخير كما كتب يثير الرغبات..عدو السجين الاكبر .. أما التبغ فقد كان دخانه يلوث أجواء الغرفه .. وأستمر وصول الكتب ذات الطابع الخفيف إليه .. روايات غرامية وقصص حربيه وأخرى كوميديه .. في السنه الثانيه توقف البيانو فلم يُعد يُسمع وأكتفى السجين بقراءة روائع الأدب العالمي .. أما في السنه الخامسة فتسلّل صوت البيانو إلى الأسماع مجدداً وطلب السجين بعض المشروبات وقال عنه من راقبه عن كثب بأنه أمضى معظم ذلك العام في تناول الطعام والشراب وفي الاسترخاء على أريكته ... وما أكثر ما تثاءب وتحدث بغضب إلى نفسه وكان يستيقظ في بعض الأحيان ليلاً فيكتب ويكتب ثم هو يستيقظ في الصباح فيمزق مادوّن .. وكان يُسمع في بعض الأوقات ... منتحباً !...
في النصف الآخر من السنه السادسة , عكف السجين على دراسة اللغات والفلسفة والتأريخ بحماس إلى حدًَّ استعصى معه على المصرفي تزويده بما يطلبه من كتب حول ذلك ... وفي بحر أربع سنوات تم -بناءً على طلبه- شراء ما يقرب من ستمائة مجلد له .. وفي خضم ذلك الشغف بعث بخطاب إلى المصرفي جاء فيه :
سجاني العزيز :
تصلك أسطري هذه بلغات ست .. وإني لآمل أن تعرضها على ذوي الاختصاص من الخبراء فأن أجمعوا على خلوها من أي خطأ .. فإني آمل أن تأمر بإطلاق رصاصة أستدل بها على صحة توجهي وأن جهودي لم تذهب أدراج الرياح .. لقد تحدث عباقرة الكون بألسنة شتى لكن اللهب ذاته كان يتأجج في ذواتهم طرّاً .. ليتك سيدي تدرك أي سعادة جمة تحتويني بعد أن صار بإمكاني معرفة ما يقولون وفهم ما يكتبون !
وكان للسجين ما أراد .. رددت جنبات الحديقة صدى مدوياً لعيارين ناريين أُطلقا إنفاذاً لتوجيهات المصرفي السجين!
بعد السنة العاشرة عكف السجين على قراءة الكتب الدينيه وتأريخ الأديان .. أما في العاميين الأخيرين له في السجن فقد أنكب على قراءة كمّ هائل من الكتب في شتى فنون المعرفة .. شد ما شغف بالعلوم الطبيعية يبحر في خضمها الساحر ثم يعرج على روائع "بايرون" و "شكسبير".. وكثيراً ما بعث بطلب خطي لتزويده بكتب الكيمياء والطب والفلسفة .. وكان أمره في القراءة عجيباً .. إذ أن الكتب بالنسبة له شادت قطع الخشب المتناثرة على صفحة اليمّ يهرع إليها الغريق في لهفة من يأمل في النجاة من ذلك البحر اللجي .. فيجمعها قطعة قطعة واللهاث يمزق رئتيه ...
استعاد المصرفي كل تلك الجزيئات في ذاكرته وفكر :
"-غداً في الساعة الثانية عشرة سيغادر السجين سجنه وسيكون لزاماً علي أن أفي بعهدي فأدفع له المليونيين عندها سأهوي إلى قرار الإفلاس...!"
شادت : بمعنى ماثلت وشابهت
يتبع إن شاء الله..........