كل شئ اصبح باهتا ، من الحب الى الموت. حتى الموت، حقا اصبح ضعيفا وهشا ولم يعد يتواجد في غير الاماكن الضيقة والفقيرة .. في الاحياء الشعبية وفي سيارات النقل الجماعية، وفي المظاهرات العشوائية. يتحاشى الاغنياء ، والابراج العالية، والاحياء النظيفة .. كما لم يعد مثيرا وساحرا مثلما تعود ان يكون.
ملعون ابو الدنيا، هكذا كان نجيب محفوظ يصرخ بصوته الاحتياطي في رواية خان الخليلي.
كان الدكتور في الجامعة، يقول لنا ونحن في القاعة : لا تسمحوا ليومكم ان ينتهي دون ان تحققوا انجازات حقيقية تتسبب في ادخال الفرح الى قلوبكم. انكم لن تستمروا في الحياة بغير اسباب تنجز لكم الفرح والبهجة. وعندما نمازحه بالقول اننا نفشل في العثور على ما يصنع فرحنا، كان يقول لنا : تابعوا مباريات كرة القدم وشجعوا الفريق الذي انتم على ثقة من قدرته على صناعة الفوز. افرحوا لفوزه كما لو كان يفوز لكم انتم. وهكذا شجعنا ، برشلونه، وإيه سي ميلان، والمان يونايتد ؛ وريال مدريد ، وتخلينا عن الفرق الوطنية التي تفوز بالدوري في بلداننا منذ عصور ما قبل كرة القدم وتفشل في المباريات الخارجية منذ ازمنة سحيقة. بيد اننا سرعان ما اكتشفنا ان تلك الفرق الكبيرة تحولت الى سوق نخاسة للاتجار باللاعبين المحترفين وانها ستخذلنا من وقت لآخر. وكانت النتيجة المتوقعة ان ينال فريق ليس على قدر عال من الكفاءة ، مثل إركوليز، من برشلونه في مباراة لم يكن توقيتها مناسبا ابدا. تسببت في احباطي لبقية ايام الاسبوع .
وفي نهاية المباراة عاديا ما كنت أصرخ في وصايا "الدكتور" يا دكتور لا تلمني سأستمر في تشجيع المهزومين.
دكتورنا في الجامعة يعتقد ان الحياة الحقيقية هي عدد ساعات الانجاز الحقيقي the achievements وهو نفس المعنى الذي واجهه المواطن العربي جبر في طريقه الى ارض الروم. فعندما مر بمقبرة رومية قرأ على شواهدها : فلان بن فلان، من مواليد 1904 ، توفي سنة 1990 ، عاش سنة ونصف. فلان بن فلان، من مواليد 1922 ، توفي سنة 1989 م ، عاش ستة اشهر. ولما سأل اهل البلدة المطلة على المقبرة عن سر كتابة التاريخ على هذه الشاكلة المحيرة اخبروه انهم يسجلون العمر الحقيقي بعدد ساعات الفرح التي قضاها الميت في حياته. فقال لهم : اذا مت هنا فاكتبوا على شاهد قبري: هنا يرقد العربي جبر، من بطن أمه للقبر.
وعلى نفس الفكرة علق شاعر المنفى احمد مطر : اذا ما عدت الاعمار بالنعمى وباليسر، فعمري ليس من عمري.
لطالما اعتقدت ان البكاء يطهر الذات البشرية. وكنت احاول ان اصطحب البكاء معي عندما اقرأ ادبا رفيعا واستدعيه في ساعات النجاح الأولى. قال لي ارسطو فيما قرأت له ان الشعر هو عملية تطهير واسعة. كأن الشاعر يقول للناس: تعالوا ابكوا معي واشتركوا في مأساتي. وفي احايين كثيرة عندما لا يكون بوسعي ان ابكي ولا ان اكتب ولا ان اقرأ كنت احس بأن العالم اضيق من دمعة، وسرعان ما اشتم رائحة دخان تطلع من صدري، انظر الى ارسطو اتذكر "الدكتور"، وبأسى اقول له يا دكتور لا تلمني، لم اعد قادرا حتى على البكاء.
من بلكونتي كل صباح، اتأمل الشارع الممتد امامي ، احسبه جثة هامدة. في منتهاه ارى الشمس تغطس في المغيب. اتساءل : كيف سأقطع هذا اليوم وانا على هذه الصورة من الاحباط واليأس؟ يصرخ بي صديقي خالد: ريال مدريد سيلعب هذا المساء. اعلق نصف ابتسامة على وجهي: سحقا لمورينيو العصبي الاحمق، وسحقا لبيريز النخاس النتن واتلمس طيلة يومي، ان كان بامكان الفريق الخصم ان يصنع لي فرحا. الفرح ذلك الذي ربما قصده ابن علوان في عنوانه الشهير : الكبريت الأحمر. هل هناك ما هو اقل وفرة من الكبريت الاحمر؟ لا تلمني يا دكتور، حتى برشلونة لم يعد قادرا على صناعة الفرح.
كتب ابو النجوم، احمد فؤاد نجم ذات مرة في احدى مقالاته عن اليأس الذي غطى كل شئ ، تحدث نجم عن صديقه الذي قال له باحباط: فين ايامك يا بو النجوم لما كانت الدنيا بتزرزرنا كنا بنلجأ ليك. لم تكن السخرية التي رد بها نجم على صديقه كافية للتغطية على الحقيقة. من يوم ما عرفتك والدنيا مزرزراك يا سيدي. اعترف بعدها نجم بأن كل شئ اصبح باهتا بحق حتى انه على عشقه للأهلي، لم يستطع ان يفرح لفوزه بالدوري حينها !
كلنا في الهم شرق بمثل مقولة احمد شوقي لمدينة دمشق.
وحتى انت، يا صديقي، فانك ستقول لي باسترخاء وانت تقاوم الملل الذي ينام على صدرك الآن،: لا تلمني يا " " ليس بمستطاعي ان احزن او افرح.
هل يمكن ان يصبح هذا واقعا؟
ان تجد نفسك في منتصف النهار، تدخلك الاحداث والاصوات. تنهزم، وتنتصر في آن واحدة، وانت في مكانك لا تأبه للهزيمة ولا تفرح للفوز؟
جرب مرة النفسانيون مثل هذه الملاحظة على فأر. وضعوه في اناء موصل بسلك كهربائي. ولمرات متتالية كانوا يكهربون الاناء. في المرة الاولى تحرك الفأر برعب. قفز، سقط، اصطدم بجدران الاناء، دون خلاص. وبعد اربع مرات شعر الفأر باليأس والاحباط. وعندما كهربوه للمرة الخامسة نظر اليهم من قاع الاناء بملل ، ولم يبدِ اي حركة. لقد كان الفأر يردد في داخله مقولة المتنبي: وصرت اذا اصابتني سهام - تكسرت النصال على النصال.
في الجانب الآخر، يبدو الفرح مملا وكلاسيكيا يبدو ان هذه الصورة هي التي تقف وراء فكرة الموضات والتقليعات الجديدة وتطوير نماذج الاستهلاك، وابتكارات الاخراج السينمائي، وانفجار النص الروائي، واقامة الشعراء عند مستوى ندب الخيبة وعبادة العتمة، وتنويعات التعاطي الجنسي للقضاء على الملل والمألوفية. كل هذا لان الفرح اصبح باهتا، ولان القيمة المطلقة التي يفترض ان ينتظم حولها ايقاع الكون تنحت مفسحة الطريق للقيم الجزئية العدمية ذوات البعد المادي الاحادي. كانت القيمة المطلقة "الايمان" في المركز وكان الانسان في المدارات.
حدث في عمليات الثورة على الكنيسة والاصلاح الديني، ابتداء باللوثرية 1519م، ان تنحى الايمان الى المدارات ، ثم الى الاطراف، ليحل الانسان محل الاله ، في المركز. وفي المركز سكنت مع الانسان نقائصه ليستحيل هو ذاته الى مركز، وهكذا يصبح للكون سبعة مليار مركز. وفي اوج ذروة الحداثة، التي عرفت باعتبارها value – free ، او اللاقيمة، تم طرد الانسان من المركز ليحل محله الشئ ، السلعة ، السوق بكل قيمها المجسدة
المادية. انتهى زمن التجريد، زمن الإيمان، زمن الانسانيات، وها نحن نلج " ما بعد الحداثة" حيث يغدو العالم كله سديما، بلازما، سائلا لا يمسكه شيء. انه الانتقال المريع من مركزية الايمان الى السيولة المحضة!
وهكذا وجدت نفسي في هذه الدوامة ، تائها ، ضليلا ، استمع جريرا وهو يقول للفرزدق: اني انصببت من السماء عليكم - حتى اختطفتك يا فرزدق من علِ. حتى انت يا جرير انصببت علينا، مثل اولئك الذين لا ينبغي ان نتحدث عنهم، مثل كل الاشياء والسلع والقيم المرافقة لها. لا تلمني يا دكتور، اريد فقط ان اغني الفيروز "
يوم و يومين و جمعة وشهر و شهرين
تعبت بعيني الدمعة وين غايب وين
شهر و شهرين و بعدك بعدك بتقول
تقول محافظ عا وعدك و الوعد يطول
و قلبي الناطر عابعدك بالو مشغول
مشغول و ليلو بعدك صاير ليلين
عالعالي طاروا و علوا جوز حساسين
حساسين و راحوا غلوا بعب الشربين