الموضوع: أحلام مستغانمي
عرض مشاركة واحدة
قديم 11-04-10, 04:19 AM   المشاركة رقم: 2
المعلومات
الكاتب:
ماجدة الصاوي
اللقب:
زائر

بيانات العضو
العضوية:
المواضيع: 24
المشاركات: -24
المجموع: n/a
بمعدل : 0 يوميا
آخر زيارة : 01-01-70

الإعـــــجـــــــاب

الحــائــط الإجتمــاعــي

التوقيت
الإتصالات
الحالة:
وسائل الإتصال:
كاتب الموضوع : ماجدة الصاوي المنتدى : قـطرات من شعراء وأدبـــاء العالم العربي والأسلامي والأدب المترجم
افتراضي


شهادة في الكتابة


قدمّت هذه الشهادة في معهد العالم العربي في باريس سنة 1997
ككّل مرة يطلب مني ان أتحدث عن تجربتي في الكتابة أجدني أنا التي احترف الكلمات, لا أدري كيف ألخّص عمري على ورق. ولا أعرف متى كان مولدي بالتحديد.
فالكاتب يولد فجأة, ولكن غالباً في غير التاريخ الذي يتوّقعه.
هناك من يعتقد انه كاتباً منذ الأزل. وهناك من ولد أمام أول كتاب أصدره. وآخر لم يولد إلا في الأربعين, أمام نصّه الأخير.
لكن, أن تسوّد عشرات الأوراق, لا يعني أنك مبدع. وأن تصدر أكثر من كتاب لا يعني أنك كاتب. "همنغواي" كان يقول "الكاتب هو من له قراء" وربما كان يعني من له معجبون وأعداء. وحسب هذا المفهوم, يمكنني أن أقول أنني كاتبة.
فأن تكتب يعني تفكّر ضدّ نفسك. أن تجادل أن تعارض أن تجازف, أن تعي منذ البداية, أن لا أدب خارج المحظور, ولا إبداع خارج الممنوع, ولا خارج الأسئلة الكبيرة التي لا جواب لها. ولو كانت الكتابة غير هذا, لاكتفت البشريّة بالكتب السماوية وانتهى الأمر. ولكن, خطر الكتابة ومتعها يكمنان في كونها إعادة نظر, ومساءلة دائمة للذات. أي كونها مجازفة دائمة. ألهذا, كلما تقدمت بي الكتابة, غادرت عمر القناعات, ودخلت سنّ الشك. ربما لأنّ الكتابة لا يمكن أن تتم على أرض ثابتة, حتى أنك تنتقل فيها من صنف أدبيّ الى آخر دون سابق قرار.
في البدء, كنت شاعرة, وربما جئت الى الشعر في لحظة تحد. أتوّقع أن أكون ولدت في السابعة عشرة من عمري. عندما وقفت لألقي شعراً في الجزائر على جهور متحمّس وشرس. جاء نصفه ليصفق لي. ونصفه الآخر ليحاكمني بتهمة أنوثتي, والكتابة عن الحب, في زمن لم ينته فيه الأخرون من دفن الشهداء على صفحات الجرائد والكتب. أعتقد ذلك, لأن الشاعر يولد دائماً في لحظة مواجهة.
وكهامش لهذه الحادثة التي تناقلت الصحافة الجزائرية آنذاك تفاصيلها. بما في ذلك تدخّل والدي نيابة عني للرد على الجمهور, نظراً لصغر سني وعدم قدرتي على مواجهة قاعة بأكملها.
أذكر الآن بألم, أن أمسيتي الشعرية تلك كانت في إطار موسم شعري سنة 1973 أقيم في قاعة "الموغار". أخذ فيه شعر الشباب باللغتين الحيّز الأكبر. وهكذا فقد جاءت بين أمسيتين للشاعرين الشهيدين الطاهر جعوط ويوسف سبتي, اللذين كانا يكتبان باللغة الفرنسية. وبدآ مشوارهما الشعري معي في ذلك الموسم نفسه. وحتماً كانا يجهلان آنذاك أنه برغم الهدوء والفتور الذين قوبلا بهما من طرف الجمهور, ورغم الزوبعة الإعلامية التي حسداني عليها. سيأتي يوم بعد عشرين سنة يتصدران فيه جميع الجرائد العربية والأجنبية كشهيدين للشعر الجزائري, سقطا ذبحاً.. ورمياً بالرصاص.. بتهمة الكتابة.
كان ذلك زمن التحدي الجميل. ورغم أنني كنت الفتاة الوحيدة التي تكتب آنذاك بين شعراء اللغتين, فقد كنت أشعر دائماً ان انتمائي لأحلام ذلك الجيل من الشباب يفوق انتمائي لأنوثتي, وأن الشعر والوطن هما قضيتي الأولى. وأما الأنوثة فهي مشكلتي وحدي.
تأكّد لي ذلك بعد عدّة سنوات, عندما غادرت الجزائر لأقيم في فرنسا وأدخل دوّامة الحياة الزوجية والأمومة والإلتزامات الإجتماعية.
ذات صباح استيقظت وإذا بي زوجة وأمّ لثلاثة صبيان ودكتورة في السوربون وباحثة في علم الاجتماع وطبّاخة وغسّالة وجلاّية ومربيّة في كل ساعات النهار. كان لي أكثر من لقب وأكثر من مهنة. غير أني كنت قد فقدت لقب "شاعرة".
أعتقد أنني أنا التي أخذت قرار التخلي عن الشعر. خشية أن أصبح أدنى منه.
أن تحترم الشعر, حدّ الإعتراف في أول خيانة له بأنك لم تعد شاعراً. هي الطريقة الوحيدة لتحافظ على لقب شاعر, ولو بينك وبين نفسك.
فإذا كان لا شيء أكثر سطوة ووجاهة من لقب شاعر. فلا شيء أيضاً أثقل حملاً ولا أسرع عطباً من هذا اللقب.
فإن تكون شاعراً يعني أن تكون إنساناً حراً, حريّة مطلقة. ولا أقصد فقط أن تكون حراً في الإدلاء برأيك أو حراً في الذهاب بجنونك حيث شئت قولاً وفعلاً. بل يتطلّب أيضاً أن تكون حراً في وقتك. أن تكون شاعراً يعني أن تكون بتصرّف الشعر وكأنك نذرت نفسك له. فهو ككل حالات الإبداع يأتيك متى شاء, فيلغي لك موعداً ويأخذ لك آخر. ويحجزك ساعات أمام ورقة. ويخرجك من طورك لأيام. ولذا الشعر ترف ليس في متناول أمرأة عندنا. إنه يذكرني بذلك التعبير الجميل (لمورياك) عندما يقول "أنا حصان الشعر الجامح.. لكنني مشدود الى عربة المحراث".
وأن أكتشف أن الشعر قد غادرني لم يخفني, بقدر ما خفت أن يغادرني الحبر أيضاً, وتخونني الكلمات. فأنا إمرأة من ورق. تعوّدت أن أعيش بين دفتي الكتب. أن أحب وأكره وأفرح وأحزن وأقترف كل خطاياي على ورق. تعلّمت ان أكون كائناً حبرياً, ألآ أخاف من رؤية نفسي عارية مرتجفة على ورق.
فأنا أحب عُريي هذا. أحب قشعريرة جسدي العاري أمام بركة حبر. وأؤمن أن الكلمات التي تعرينا هي وحدها التي تشبهنا. أمّا تلك التي تكسونا فهي تشوهنا. ولذا كان عنوان ديواني الثاني منذ عشرين سنة "الكتابة في لحظة عري".
وربما كان لحياة الأمومة والبيت التي عشتها خمس عشرة سنة متتالية أثر في تغيير مزاجي الحبري, ونظرني الى الكتابة. ذلك ان الكتابة لم تعد كل حياتي. بل حياة مسروقة من حياتي الشرعيّة . أصبحتْ أشهى وأصبحتْ أخطر. أصبحتْ حالة مرضية. وعكة حبر, وحالة خوف وذعر من شيء لا يمكن تحديده. أصبحتْ حالة تعددية وقدرة على أن أعيش داخل أكثر من امرأة. أن يكون لي أكثر من نشرة جويّة في اليوم. وأكثر من جسد كل ليلّة. وأكثر من مزاج عشقي, وأن تكون لي يد واحدة لا أكثر أكتب بها كل هذا.. وأسرق بها كل هذا.
(جان جنيه) كان يقول "كنت من قبل أسرق, اليوم صرت أكتب الكتب" وبإمكاني أن أقول العكس: فلقد بدأت كاتبة, وانتهيت سارقة. فالكتابة بالنسبة لي مواجهة مع الواقع المضاد. إنّها نهب وسطو دائم. فأنا أسرق الوقت لأكتب. وأسطو على مكتب إبني لأكتب, وأتحايل على من حولي لأخذ موعداً مع الورق.
وسأظل أنهب الكلمات كما ينهب بعضهم السعادة. ذلك أنّ الكتابة هي المغامرة النسائية الوحيدة التي تستحق المجازفة. وعلي أن أعيشها بشراسة الفقدان كمتعة مهددة.
لقد عشت عدة سنوات دون مكتب ودون غرفة للكتابة. أنقل أوراقي من غرفة الى أخرى. الأن كل الغرف من حولي كانت محجوزة, تعوّدت أن أسكن ذاتي. ولأن كل الأبواب كانت مغلقة حولي فتحت يوماً خطأ باباً كان لا بد ألا أفتحه. وإذا بي أمام نفسي. وإذا بي روائية.
لأراغون مقولة جميلة "الرواية هي مفتاح الغرف الممنوعة في بيتنا" يوم قرأتها أدركت أنني دخلت الرواية دون أن أدري. وأنا أفتح ذلك الباب بحشريّة وفضول. وإذا بي أصاب بالدوار والذهول وانا أقع على امرأة توقعتها غيري.. وإذا بطوفان الكلمات يذهب بي نحو نصّ مفتوح ومخيف في نزيفه. لم يكن إلا رواية سيكون حجمها أربع مئة صفحة ويكون إسمها "ذاكرة الجسد".
عن هذه الرواية التي كان لها قدر أكبر مما توقعت, لن أقول لكم شيئاً. فأنا لست هنا لأروج لها. إنني اعتبر صمت الكاتب بعد كل كتاب جزءاً من إبداعه.
فالكاتب عليه أن يقول كل شيء في كتابه وليس بعد صدوره. وليس عليه أن يقول أكثر مما كتب ليشرح للآخرين ما كان ينوي قوله. كل كتابة لا بد أن تؤدي الى الصمت. ولذا الأجمل أن يصمت الكاتب بعد كل كتاب أحتراماً لذكاء القارىء. ولأبطال لم يعودوا في حاجة إليه بعد الآن.
ولكن ما أريد قوله, هو أن الكتابة مشروع شخصي. ورحلة لا يقوم بها المسافر إلا وحده. لسبب وحده معني به.
وحتماً إن رحلة على هذا القدر من المجازفة والمواجهة تكون شاقة أكثر بالنسبة الى المرأة التي تدفع مقابلها ثمناً مزدوجاً. هو ثمن الكتابة.. وثمن الأنوثة.
أمّا إذا كانت جزائرية وتكتب باللغة العربية, فهي معرّضة لمخالفتين إضافيتين, الأولى أن تدفع ثمن هويّتها والثانية ثمن اختيارها الكتابة بلغة محفوفة بالمخاطر أكثر من غيرها.
فهل نعجب بعد هذا, أن لا يكون لنا في الجزائر شاعرات أو روائيات باللغة العربية. على ألأقلّ بما يعادل باللغة الفرنسية على قلّتهن. وهل نعجب أن يكون ديواني الصادر سنة 1973 في الجزائر أوّل ديوان شعري نسائي باللغة العربية. وأن تكون روايتي (ذاكرة الجسد) الصادرة بعد ذلك بعشرين سنة تماماً. هي أيضاً أول عمل روائي نسائي باللغة العربية. وكأن الأدب الجزائري المكتوب باللّغة العربية لم يكن ينتظر غيري طوال عشرين سنة. في بلد تتخرّج عن جامعاته كلّ سنة آلاف الطالبات, بإتقان للغة العربية.
إن اكتشافاً كهذا لا يملأني زهواً فأنا أعي أن وجاهتي الأدبية تعود لمصادفة تاريخية وجغرافية, ليس أكثر.
بقدر ما يملأني بإحساس غامض بالخوف على اجيال لن تعرف متعة الكتابة بهذه اللغة. بل وقد لا تعرف متعة الكتابة على الإطلاق. بعد أن حرمها البعض من متعة القراءة أيضاً. وأقنعها أن الكتاب صديق سوء. وأن هناك كتباً مفخّخة تنفجر في قارئها. وأن الكتّاب قطاع طرق يتربصون بالقارىء بين صفحتين, ومجرمون يتنقلون وفي حوزتهم أوراقاً وأقلاماً. وأنهم صنف بشري لا يستحق الحياة.
في زمن ما زالت فيه الحدود مغلقة أمام ما تبقى واقفاً من أقلام. وما زال فيه أنظمة عربية من الجهل, بحيث تخاف حتى من عناوين كتبنا. وتمنع مؤلفاتنا من قبل حتى أن تقرأنا. وثمّة أخرى استرخص فيها دم وشرف الكتاب بحيث يموتون كل يوم مقابل حفنة من الكلمات. نحن نطمح أن تعيش كتبنا.. لا ان نعيش منها. نطمح أن تسافر كتبنا لا أن نسافر على حسابها. نطمح أن لا يشتري القارىء كتبنا على حساب لقمته. لأنه لن يزيدنا ثراءاً.. وإنما يزيد من عقدة ذنبنا.


أحلام مستغانمي

:،:












عرض البوم صور ماجدة الصاوي   رد مع اقتباس