تابع ...
ثانياً : نماذج من القصة العربية :
1 - قصة عنبر لولو " نجيب محفوظ " ( 14 )
يختلط الزمان بالمكان عند نجيب محفوظ ، في بداية القصة نقرأ الفقرة التالية : " قام الكشك من طرف الحديقة الجنوبي . كشك مصنوع من جذور الأشجار على هيئة هرم تكتنفه أغصان الياسمين ، وقف وسطه كهل أبيض الشعر نحيل القامة ما زال يجري في وجهه بقية من حيوية ، جعل ينظر في ساعة يده ويمد بصره إلى الحديقة مستقبلاً شعاعاً ذهبياً من الشمس المائلة فوق النيل نفذ إلى باطن الكوخ من ثغرة انحسرت عنها أوراق الياسمين ، ولاحت الفتاة وهي تتجه نحو الكشك سائرة على فسيفساء الممشى الرئيسي . "
تدلنا الفقرة السابقة على قدرة نجيب محفوظ على رسم المكان وجعله إحدى شخصيات السرد ، يختلط المكان هنا بالزمان ، فالشمس ترسل شعاعاً ذهبياً مما يشير إلى أن الوقت هو وقت الأصيل ، أما دخول شعاع الشمس من ثغرة بين أغصان الياسمين إنما يشير إلى المكان الفيزيائي ، وإلى الأمل الذي يراود الرجل على الرغم من دخوله مرحلة الكهولة ، كما يتضح لنا أن الرجل ينتظر شخصاً ما ، فهو ينظر في ساعته ويمد بصره إلى الحديقة ، وبعد هذا التمهيد يضعنا الراوي أما فتاة خضراء العينين تتجه نحو الكشك .
وقد شغل الحوار مساحة واسعة من القصة مما يحيلنا إلى الزمن الحاضر " الآن " ويجعلنا نعيش اللحظة نفسها مع الرجل والفتاة ، ولكن الراوي كان يقطع الحوار ليعيدنا إلى الزمن الماضي من خلال تعليقات سريعة نثرها هنا وهناك في ثنايا الحوار .
يخبر الرجل الفتاة أنه أمضى خمسة وعشرين عاماً في السجن " مكان إقامة إجباري " لأنه انضم إلى الجموع الثائرة ومارس العمل السري فيما بعد ، يدعو الرجل الفتاة إلى الذهاب معه إلى عنبر لولو بعد أن كذبت عليه واخبرته أن شاباً سيتقدم لخطبتها ، وفي أثناء حديثهما يقتحم الكشك شاب أغبر الوجه يتصبب عرقاً ، وحين تحاول الفتاة الخروج يطلب منها الكهل أن تنتظر فلا يجوز أن تخرج وحدها لأن الطرقات تكون خالية في ساعة الأصيل ، ولكن الشاب يخبرهما أن الطرقات ليست خالية فهي مطوقة برجال الشرطة بسبب وقوع إطلاق نار من فوق البرج لم يسبب ضرراً لأحد .
أخيراً تصارح الفتاة الكهل بأن ما ذكرته عن خطبتها كلن حلماً فيصارحها بدوره بأن عنبر لولو لا وجود له وأنه حلم راوده هو وزملاءه في السجن فرسموا صورة لمكان تتحقق فيه أحلام البشر دون عوائق ، فالعنبر الذي هو رمز للسجن في واقع السجناء تحول إلى مكان أشبه بجمهورية أفلاطون في خيالاتهم ، تماما كما كان العرب يفعلون في الجاهلية ، يسمون الأشياء بغير أسمائها الحقيقية فيطلقون لفظة السليم على الملدوغ ، والمفازة على الصحراء المهلكة .
2 - الشهداء يعودون هذا الأسبوع " الطاهر وطار "
تبدأ القصة بخروج العابد من مركز البريد بعد تسلمه رسالة من الخارج ، يتجه العابد إلى ظل شجرة ويجلس على صخرة ليبدأ النظر في الرسالة ، ويمضي في جلسته أربع ساعات يطوي بعدها الرسالة ويضعها في كيس معلق في عنقه ، هنا يختلط الزمان بالمكان كما في القصص السابقة ، إلا أن الزمن في القصه زمن تائه ضبابي غير محدد وكذلك الحال بالنسبة للمكان ، فاليوم غير محدد وكذلك الأسبوع ومكتب البريد والشجرة ، لا حقيقة هنا سوى ضوء الشمس ، أما بقية الأشياء فيمكن أن تكون في أي مكان في الجزائر ، مما يدل على شمولية الحالة التي يتحدث عنها راوي الطاهر وطار .
يتحرك العابد ، وفي طريقه يقابل المسعي ، يسأله العابد عن رأيه فيما لو جاءته برقية تخبره بعودة ابنه الشهيد ، ويؤكد له أن الشهداء سيعودون خلال أسبوع ، يقول المسعي إنه سيفرح ولكن هذه العودة ستخلق مشاكل كثيرة ، لأن مثل هذه العودة تجيئ متأخرة ، والحقيقة أن المسعي كان يفكر فيما سيخسره من تسهيلات ومساعدات إذا عاد ابنه الشهيد ، يتركه العابد ليقابل سي قدور في محله " الخمارة " " يعرض قدور على العابد أن يشرب القازوزة فيقول العابد إنه دخل هذا المحل مرتين ، مرة في عام 1940 م عندما أخذ القائد حصانه ، وهذه المرة ، يطلب العابد من قدور أن يقص عليه كيف استشهد ابنه مصطفى فيحكي له قدور الحكاية التي اخترعها وهو يتصور أن العابد قد عرف شيئاً عن وشايته بابنه ، يخبر العابد قدور بأن ابنه مصطفى سيعود في ظرف أسبوع .
بعد ذلك يقابل العابد عبد الحميد شيخ البلدية فيحدثه عن عودة ابنه ، فيفكر رئيس البلدية في الانتقام وبأنه سيأكل من لحم الشهيد لو عاد لأنه قام بقتل أبيه الخائن " رئيس البلدية السابق في زمن الاحتلال الفرنسي " ، يسأل العابد شيخ البلدية عن موقفه من عودة الشهداء فيخبره أنهم يحتاجون أول ما يحتاجون إلى إثبات حياتهم من جديد .
يوجه العابد السؤال نفسه إلى المانع منسق القسمة الذي يوشك على الانهيار لاعتقاده بأن العابد يعرف بأنه وشى بابنه مصطفى وأبلغ عنه العدو الذي كمن له في منزله ولكنه تخلف عن الحضور ، يظل العابد يسأل ويسأل ، وحين يقابل منسق قسمة قدماء المجاهدين يتذكر هذا كيف استشهد مصطفى وكيف نجا قدور ! وكيف وجد الوقت الكافي لدفن مصطفى بعد انفجار اللغمين ، يقول المنسق للعابد أن ينصح ابنه بعدم العودة إلى القرية ، هنا يدرك العابد أن لا أحد يريد عودة الشهداء ، حتى رئيس الدرك يخشى عودة الشهداء الذين سيقولون كيف استشهد جميع أعضاء فرقته بعد أن ترك رشاشه الذي كان من واجبه أن يحمي به المجاهدين ، وكيف تسبب توقفه عن إطلاق النار وركضه نحو العدو في هلاك جميع أفراد الفرقة بينما وقع هو في الأسر ، يحاول رئيس الدرك أن يصرف العابد عن هذه الفكرة مذكراً إياه بما سيخسره فيما لو عاد ابنه وبأنه سيخسر المنحة ورخصة سيارة الأجرة ، والسكن منخفض الأجر ، والاحترام الذي يحظى به كونه والد شهيد .
حتى الكوميونست لا يرحب بعودة الشهداء على الرغم من أنه ليس في السلطة وعلى الرغم من أنه ثوري مخلص يشهد العابد على صموده في المعتقل أمام العذاب الشديد ، هنا يعتقد أن شيخ المسجد قد يرحب بعودة الشهداء ، يخبر العابد الشيخ بأن الشهداء سيعودون في ظرف أسبوع ويقول له بأنه زوج امرأة ابنه الشهيد من أخيه الأصغر الذي أنجب منها أربعة أطفال فيقول له الشيخ أن ذلك هو الكفر بعينه لأنه زوج امرأة غير مطلقة لأن الشهيد حي وبالتاي يجب إتمام إجراءات الطلاق .
يتساءل العابد عما سيفعله الشهداء إذا ما أدركوا هذه الحقيقة ، هل سيندمون على تضحيتهم ؟ وهل ستضحي الأجيال القادمة إذا ما أدركت هذه الحقيقة ؟
يتواطأ الجميع ضد العابد ويحاولون الادعاء بأن هناك حركة تشويش ضد الثورة فيحاولون اعتقال العابد الذي يقطع الطريق عليهم حين يلقي بنفسه تحت عجلات القطار ، لقد تحول القطار هنا من وسيلة انتقال إلى أداة قتل ، وهو كغيره من أماكن العبور قد تحول إلى مصدر للمعاناة بالنسبة لذوي الشهداء ، في حين استولى الخونة والانتهازيون على مقاليد الأمور في ثورة الجزائر ، أما أحداث القصة فقد وقعت بعد انتصار الثور بسنوات عديدة .
3 - قصة " ليلى والذئب " غادة السمان .
تبدأ القصة بعبارة " إني خائفة .. كل ما حولي يرتعد خوفاً " ، هذه العبارة توحي بأن وقت التفلظ بها هو الليل ، فالخوف يكون أكثر ما يكون في الليل ، ينكشف لنا ذلك بعد سطرين من العبارة السابقة حيث تقول الراوية : " النور المسلط على مكتبي يصاب بإغماء أصفر ، وقد انتقل خوفها إلى صفحات مجلد الطب فتخالها ترتجف ، حتى الجمجمة صديقتها الوحيدة فقدت بريق السخرية الذي يطل من فجوتي عينيها ، كما إن توقف الريح عن العويل وتوقف المطر عن الهطول الريح هنا يدل على الزمن ويحدد لنا الفصل الذي وقعت فيه الأحداث وهو فصل الشتاء ، والراوية هنا تريد أن توحي لنا بأن الخوف قد أصاب الجميع .
وفي فقرة أخرى يختلط الزمان بالمكان ، تقول الراوية : " كان الليل حزيناً وبارداً ، ونحن في طريقنا إلى " البستاني هول " ( سكن الطالبات ) ، مررنا بمبنى كلية الطب حيث أقضي أكثر ساعات النهار . كان من الصعب أن أصدق أن خلف تلك الجدران المعتمة مقاعد خشبية بريئة تلتصق بها بهدوء . ونوافذ تنسكب منها أشعة شمس مضيئة .. في الليل يتغير وجه العالم ، وربما يستعيد وجهه الحقيقي . أحسست بأشياء مرعبة تغلي داخل البناء ، الهياكل العظمية تتحرك وتتجه نحو النوافذ المغلقة .. عبثاً تحاول الهرب ، وربما يجلس بعضها في الزوايا لينتحب بصمت وبراءة من أجل أشياء لا يدري إن كان قد ارتكبها حقاً" . نلاحظ هنا أن الراوية تسقط ما في نفسها على الأشياء من حولها مثل الزمان والمكان والهياكل العظمية التي تتعامل معها وكأنها كائنات حية ، إنه الزمان النفسي والمكان النفسي .
تقول الراوية : " ورأيت بيتنا الكبير في المدينة المجاورة يغلي .. أمي مشغولة ، مشغولة دائماً .. لا أدري كيف وجدت الوقت لولادتي ، وربما أبقتني في جوفها شهراً إضافياً ريثما وجدت في زحمة مشاريعها ومواعيدها وقتاً ، ولهذا فأنا أصاب بضيق خائف من الجدران .. ربما أكره المدارس الداخلية لهذا السبب … "
تكشف الراوية هنا عما يختلج في نفسها من الخوف والقلق النفسيين ، فعلاقتها بأمها شبه مقطوعة تكاد تقتصر على تلك الحوالة المالية التي ترسلها أمها بواسطة السكرتيرة لتغطية مصاريفها الدراسية ، والراوية تتخيل أنها تسمع صوت فراس في الليل بعد أن تغلق الأبواب ، ذلك الإنسان الذي تحبه ، صوته وحده هو الذي يحميها ، وهو جرعتها المخدرة ، كما إنه يعيدها فتاة سوية تستطيع النوم ، والخوف يلازم الراوية التي تقول : " خائفة .. الحفارة تعمل في صدري . النحيب يتعالى . الجمجمة لم تعد صديقة .. الرعب يتدفق من عينيها .. في القبو وليمة وحشية للصراخ .. يجب أن أمسك يداً ما ( يا فراس .. أين يدك ؟ بحجر كبير أهشمها وأبكي لأغسل دمها . "
الحفارة هنا ترمز إلى الذكر ، إلى فراس الذي تشتاق إليه الراوية وتنام على صوته الذي يحميها ولكنها تخاف منه في الوقت نفسه فترغب في تهشيم يده لتعود فتغسلها بدموعها ، صراع نفسي عنيف تضفيه الراوية على الزمان والمكان والأشياء من حولها ، ينعكس هذا الصراع على صديقتها الباكستانية التي تشاركها غرفتها في سكن الطالبات ، هذه الشريكة تعيش حالة من الفصام ، فهي تصلي من أجل الراوية باعتبارها طفلة ضالة ، ولكنها بعد الصلاة تأوي إلى فراشها تقرأ في أحد الكتب الجنسية البذيئة ، وعلى الرغم من هذا التناقض فإنها تتصالح مع نفسها .
يشكل الهاتف جسراً تعبر عليه الكلمات لتصل بينها وبين فراس لتقول له : " كل ما أعرفه هو أنني لن أتكوم في صدرك يا ذئبي الحنون " ، هنا نجد تناصاً بين هذه القصة وقصة ليلى والذئب التي كتبت للأطفال ، فالذئب يشير إلى الذكر ، يؤكد ذلك قول الراوية : " إنني إذا رويت قصة ليلى والذئب لأولادي فسأخبرهم بأنه كان شاباً رقيقاً شفاف العينين ، في احتضانه الشرس لليلى تخدير يشبه الحنان ، يشبه اغتصاب موت عنيف كاليقظة والفرح .. وأنه لم يعذب ليلى ، وأنه أراد أن يقبلها ، لكن أسنانه ركبت بطريقة جعلت من قبلته عضة مميتة .. " نلاحظ هنا كيف تحول الزمن من الماضي إلى المستقبل باستخدام إذا الشرطية لما يستقبل من الزمان وكذلك السين التي أحالت الزمن الحاضر إلى المستقبل ، والذئب والغابة هنا عناصر تسقط الراوية من خلالها مشاعرها نحو المجتمع الذي تعيش فيه ، تقول الراوية : أحسستني عارية ممدودة على الصخر في الغابة ولسانك حفارة في صدري ، فولاذ لا حد لوحشية دورانه وتمزيقه .. الحفارة في صدري .. عاجزة عن الفهم .. عن المناقشة .. "
كما تتخيل الراوية قطها مدجج في صورة بائع العصير الذي ضحك واهتز شارباه عندما قالت له : شكراً يا مدجج ، ومن خلال السرد نعرف أن الراوية افترقت عن فراس اليوم ( الحاضر بالنسبة لها والماضي بالنسبة لنا ) ، لتشعر بحريتها في الغابة ، تركض وتفتح ذراعيها لتضم الريح والليل والصمت المريب ، يغمرحا إحساس يشبه فرحاً عجوزاً بعد أن رأت في كلمة أحببته كلمة سخيفة تقولها البنات الطيبات لأمهاتهن ، وفي نهاية القصة يلتصق بها قطها " رمز الذكر أيضاً " ليلعق بلسانه الخشن خدها بحنان ، بينما يده الصغيرة على خدها دافئة وكبيرة كسقف الدار .