المكان القصصي
بقلم: د.عماد علي سليم أحمد
الخميس 31 كانون الأول (ديسمبر) 2009
* السرد والمكان القصصي
* تكامل إيقاعي مع الزمان والشخوص...
* قصة «وجوه تلتقي» لـ نعيم الغول، أنموذجا
ورد عند الدكتور إبراهيم خليل في كتابه «النقد الأدبي الحديث – من المحاكاة إلى التفكيك»*[1] حديث عن ربط السرد بالمكان ضن موقع السرديات من النقد الأدبي الحديث، واختار الدكتور إبراهيم خليل للسرد موقعا قريبا من السيميائية والعلامة التي ينبغي أن ينظر إليها وإلى تفاعلها بالأركان السردية الأخرى من زمن وأشخاص.. ويشير المصطلح إلى أن لكل حدث يقع في القصة في وقت ما مجالا لا بد أن يجري فيه، وأن هذا المجال الذي تكر تسميته مكانا لا يظهر عشوائيا، إنما له دور في إضفاء الصنعة المتقنة على النص.. هذا ما سنحاول دراسته في قصة «وجوه تلتقي» للقاص الأردني «نعيم الغول» .
ثم يكون المكان – عادة – متحكما في حركة القصة وفاعلا فيها.. فهو يساهم في إظهار مشاعر الشخوص من خلال إيراد ما تتأملها أو تحلم بها من أماكن.. أي أن حضور المكان في هذه الحالة هو معاضد لاستبطان الشخصية ومساهم بسماتها وإيحاءاتها في تقدم العمل، أو في التعبير عن أحاسيس الشخصيات ورؤاها. فيبدو المكان وسيلة لتحقيق غاية ما لدى القاص، ليقدم من خلالها جملة من الآراء الفكرية والإنسانية المرتبطة بالمجتمع الإنساني وشرائحه، منطلقا من رؤية وموقف ثابت لديه؛ لأن المكان هو الفسحة / الحيز الذي يحتضن عمليات التفاعل بين الأنا – والعالم.. ومن خلاله نتكلم وعبره نرى العالم ونحكم على الآخر*[2].
وإن أول ما يطلب من الكاتب، سواء استمد موضوعاته من التجارب العادية في الحياة أم تعدى نطاق المألوف إلى عوالم الخيال والخوارق أن تتحرك شخوصه على صفحات القصة، حركة الأحياء الذين نعرفهم أونعلم بوجودهم، ويجب أن يحافظوا على مثل هذه الحركة طوال القصة، وأن يظلوا أحياء في ذاكرة القارئ / الناقد، وهذه الحركة لا تتم إلا في حيزها الطبيعي الذي يقع الحدث فيه، وهذا الحيز هو المكان الذي تجتمع فيه العوامل والقوى التي تحيط بالشخصيات، وتؤثر في تصرفاتهم في الحياة، فالشخصيات بحاجة إلى مكان تتحرك فيه، والزمن يحتاج إلى مكان يحل فيه، والأحداث لا تحدث في الفراغ، كل ذلك يحتاج إلى إطار يجمعها ليتم تفاعلها بإيجابية لتكوين البناء القصصي، والمكان هو ذلك الإطار*[3].
وللأماكن نمطان في الاستخدام القصصي:
الأماكن المغلقة،
الأماكن المفتوحة.
الأماكن المغلقة
وهي التي لها دور بارز في رسم الخط العام في الفعل القصصي، مثل : البيت، إذ تجد فيه الشخصيات حريتها الكاملة فيه، فالعلاقة تبدأ بين الإنسان والبيت من لحظة ميلاده وتطوره وتفاعله.
الأماكن المفتوحة:
وهوالفضاء الذي يمتد به القاص للخروج إلى الطبيعة الواسعة، ففضاء الطبيعة الذي تتحرك فيه الشخصيات يمثل حقيقة التواصل مع الآخرين والحركة والتوسع والانطلاق، ومن الأماكن المفتوحة : الشارع، والحديقة..
وقد كان للأماكن المفتوحة دور بارز في تطور الأحداث، وحركة الأشخاص وصراعها، حيث تكون الأحداث فيها كبيرة، مختارة بعناية القاص وحنكته من فوضى الحياة ومن مساحتها العريضة، حيث تطفو الخطوط المتعلقة بعلاقة الإنسان بالمكان، فيظهر المكان من خلال الإنسان..فالمكان المفتوح بكل ما يحتويه هو نقطة الاتصال مع العالم والالتقاء والتواصل مع الآخرين، ويحمل الانفتاح فيه معاني البحث والإطلاع والاكتشاف، والتأثر بما يحيط بهذا من تيارات ومنطلقات وتأثيرات كبيرة.
وبعد،
فالمكان يشكل عنصرا بارزا في العمل الفني، لا يمكن تجاوزه، فهو يعمق الصلة والتواصل بين القارئ والنص، بما يجعل القارئ يشارك الكاتب في بحثه عن المكان واستعادة الذات والهوية.. وتنبع أهمية المكان في العمل الأدبي لدوره الواضح في تجسيد رؤية الكاتب لهوية الإنسان، ووجوده القائم على الأرض التي تنبع منها هذه الرؤية، فانظر ذلك في تعدد ذكر القاص للمكان بدءا من الشرفة وانتهاء بالسلط في نكهة خاصة ومتميزة كنتاج مركب لتشابك الأبعاد البنيوية، والدلالية، والرمزية، والإيديولوجية، فضلا عن البعد الجغرافي الذي يعمل على تنظيم خيال القارئ وترتيب معطيات تصوره*[4].. يقول نعيم الغول*[5]:
نادتني الشرفة حين أحست بالوحدة، فخرجت إليها أطارحها الملل الذي عشش في صدري من طول التحديق في المقررات المدرسية،
فيفتتح القصة بالمكان، وهذا شائع، وكأن المكان هوالبوابة الأقدر على تمكين القارئ من النفاذ إلى دواخل القصة واكتناه أعماقها.
ويقول عن الشارع:
وارتطمت بسمعي أصوات في الشارع
قذفتها حناجر أطفال يلهون، فاستوقفتني..
ثم يذكر عمّان والسلط:
... أفراح وأعراس الخميس والجمعة...
ترقص عمان على أصوات السيارات، والموسيقى، والدبكات،
ترفرف عصافيرها بالفرح..
ترى أيجري مثل هذا في السلط
مسقط رأس أبي،
المدينة التي تورق برفات أجداده؟..
فالقاص يفهم كيف يتعلق بالمكان ويعلق القارئ به... انظر لهذا الملخص لأماكن قصته:
• دلالات إيقاع المكان:
ثم انظر لهذا الوصف المكاني الدقيق:
لسلط تتمطى بدلال في قلب أبي،
لكنه كأي رجل أدار ظهره لامرأة أحبها وأحبته
ليجرب حبا آخر،
عانقته عمان،
....
ويحل بجسمه في عمان..
لكنها سرعان ما أصبحت " ضرة" للسلط،
ونحن لا ندرس الجغرافيا القصصية عند نعيم الغول، بل تأخذ دراستنا أبعادا مختلفة ومتشعبة، وقد تمثلت هذا الجغرافيا في مكان واحد هو المدينة، فالقاص متورط ومنخرط في ماهية المكان والمدينة إلى درجة اكتساب وصفه بعدا اجتماعيا، فيقول:
يداخلني إحساس بأن وجوهنا الأردنية التي شربت من أقداح الشمس سمرتها مصابيح تصلها أسلاك كهربائية خفية،
ولذلك هو قادر على إكساب مكانه بعض الملامح الأخرى التي يمكن ملاحظتها في كيفية بنائه لها كجزء من معماره الفني على الورق.. وهو يصف الشارع [والشارع مكان مفتوح ليس بالمغلق.. انظر لاستثمار القاص له وصولا لدبابات الجيش الإسرائيلي، إضافة لاستمراره في ذكر التركيز على المكان (مخيم جنين) ]:
... عدت إلى شارعنا
الذي تبتسم له الشمس أولا في عمان،
... شعرت بالتلفاز يصمت لثوان،
وفجأة ثقبت مسامير آذاننا دبابات جيش الاحتلال الإسرائيلي تفرغ أحمالها على مخيم جنين،..
ولعلنا ونحن ناظرين إلى المساحات الاجتماعية التي تتحرك فاعلة في القصة:
فهذه الفاردة،
وذاك التلفاز الذي تجتمع حوله العائلة،
والاستماع للأخبار.. وهكذا..
وقد تجسد المكان في القصة في ظاهرة ذات مناخات وأبعاد مختلفة، إذ تبدأ القصة بـ : الشرفة، التي تحتضن جملة من التفسيرات للواقع الاجتماعي والاقتصادي والذاتي لتجارب الحياة اليومية عند البطلة (طالبة التوجيهي)، فمع تدافع الأوهام والتأملات النفسية، تبدأ الأحلام بالتصاعد والخوف يسكن قلبها، فمن ماذا هي تخاف؟
ومن هنا نقف مع ملخص للشخصيات نرى خلاله الرسم التالي:
• دلالات إيقاع الشخصيات من خلال المكان:
ويبقى المنزل الحلم: هوالمكان الضائع المفقود في مخيلة البطلة.. وتبحث عنه، خاصة بعد أن تراه يتهدم على أصحابه في جنين! وقد حاول القاص في قصته ذات الجغرافيا المحددة أن يبتعد عن النمطية، إذ أحضر نماذج مختلفة من بيئات متعددة، مما يميزه في رسم المكان في أجواء مختلفة.. فكانت الفاردة وحضر الأطفال و..
ويدور الصراع، انظر إلى قوله:
وكنت أشعر أن الجرح الحار فتح في جنين،
لكنه بدأ يسيل من ماعين، وأن كل حجر يسقط من بيوت نابلس تهتز له قلعة عجلون، ويتردد معه بعض من غضب يترجرج في أعماقي.
ويواجه الإنسان مصيره في سبيل العيش بكرامة وحرية، فكلما اقترب الإنسان أكثر من نفسه ومكانه وجد اليأس يسيطر على كل شيء.. ليعيش ألم ومرارة هذا الانهزام الذي لا يفنى.. فيبحث هذا الإنسان عن مكانه الذي يحقق حلمه فيه : يبحث عن بيته، فكيف إذا كان بيته يلفه الخوف !
إن المكان المغلق هوحصار خارجي وداخلي للإنسان، يلجأ إليه الإنسان ليقبع في ظلاله المنغلقة ليعبر بهمسه عن الضيق والصعوبة والخوف، مما يجعله دائم الهرب إلى داخله رغبة منه في البوح بمشاعره وأحاسيسه ليرتاح خوفا من الخارج، ففي ابتعاده وانغلاقه في هذا المكان تفكك لروابطه، وتأخذ الأماكن لدى القاص دلالة الغرفة المغلقة عن العالم المحيط.. فيذكر الجامعة :
لا أزال أذكر هناء ابنة الجامعة الأردنية،
أذكرها حين جاءت إلينا الصيف الماضي برفقة صديقتها الكركية برناديت،
ولكنها في الوقت نفسه هي انفتاح على الذات بقيمه النسبية.. فالغرفة تحتضن حياته.. وإليها المهرب واللجوء:
فهربت إلى غرفة نومي..
هي هي التي تحتضن معه شيئا من الحديث، والتأمل، والخوف، والتفكير، وأشياء أخرى، قد لا يعلمها إلا هو.. فالمكان يعكس إلى حد ما جزءا كبيرا من الحياة وتفاصيل حياتية،..يقول:
لم أحتمل أكثر، هربت إلى غرفتي..
وفي داخلي تضطرم عواصف رهيبة..
لا بد أن نخرج في مظاهرات.. لا بد أن نفعل شيئا.. لا بد...
إن المكان اكتسب إيجابيات وسلبيات واضحة من خلال نفسية البطلة ومشاعرها التي تتحدث على لسان صديقتها:
قالت: إن والدها توفي برصاصة من اليهود وهم يطاردون بعض الشبان في المخيم،
...
احتضنتها أختي وصار صعبا علي أن أعرف دمع من بلل أرض الغرفة،
غمغمت برناديت من بين دموعها:
«سأصلي للرب كي نلتقي ثانية دون أحزان»
إن فضاء الطبيعة الذي تتحرك فيها الشخصيات – عند نعيم الغول - تمثل حقيقة التواصل مع الآخرين والحركة والتوسع والانطلاق، من خلال الزمان المهم للدلالة على المكان بمرور الحوادث ومرور الوقت:
سيصطحبنا إلى الجسر صباح اليوم التالي،
فقد جاء المكان شاهدا حيا حمل في أحشائه معاني الهوية والحركة والرصد في الحياة.. انظر لملخص الزمان في القصة الذي يمكن أن نقسمه إلى أقسام ثلاثة هي:
من حيث الصيغة الدلالية (الفعل هوالدال).
من حيث المدلول (الاسم هوالمدلول).
من حيث عنصر الباعث (الوقت هوالموضوع الباعث للدال والمدلول).