مشاهدة النسخة كاملة : جنتي
متاهة الأحزان
15-05-18, 08:59 PM
جــنــتــيــ
وذاكرة النبض لا تمحى
نصٌ ولد من رحم الشوق للحروف كما للقلم
نصٌ قد يكون به من العجز ما به لكنه أبى إلا أن يرى النور ها هنا
وكما جرت العادة
نشر أول
متاهة الأحزان
15-05-18, 09:04 PM
جنتي
ج 1
وذاكرة القلب أبدا لا تمحى
انكمشت على نفسها بالفراش غارقةً في ظلام حجرتها كما ذكرياتها التي أشعلها هذا اللقاء ...
على أن في الأمر خطبٌ ما ... إنه هو ... هو ذاته
لن تنساه مهما طواه الغياب. هي لم تصدق أنه مات في الماضي كي ترضخ الآن لتلك الحقيقة التي يشويها غموض وتشويه لا نهاية له.
حسناً إن لم يكن هو لماذا انتفض قلبها حين رأته بل كيف يعود بعد هذا الغياب يحمل إسماً وهوية مختلفة.
أمسكت رأسها بكفيها تحاول منع سيل الذكريات من التدفق دون جدوى.
فهي لا زالت تذكر أيام طفولتها أول لقاء بينهما كأنه وقع بالأمس. ليس قبل11 سنة. كانت في العاشرة من العمر حين رافقت والدها إلى حيث يعمل في القصر المجاور-لبيتهم الصغير- بقيت في الباحة تركب الأرجوحة حين تتجول بين الزهور المختلفة حيناً آخر وجل وقتها تطارد الفراشات كأنها أحلامها الوردية .
لم يعكر صفو طفولتها أي شيء رغم الحرمان وضيق ذات اليد.
كانت تركب الأرجوحة حين خرج من باب القصر طفلاً في مثل عمرها تقريباً يبدو عليه الشر شعره مشعث ثيابه غير مرتبة بل تكاد تكون ممزقة ووجهه عابس.
اقترب منها وعيناه تشتعلان غضباً فارتجف قلبها خوفاً وتمنت لو أنها تملك أجنحة فتفر بها إلى السماء أو حتى لو تتبخر من أمامه كقطرة ماء...
وضعت يدها على صدرها تحث قلبها الثائر على الهدوء
ياه كم يرتجف قلبها وكم يثور وكيف تضج به المشاعر حين يمر في ذاكرتها ذلك الفارس..
اقترب منها بنظرة باحثة متفحصة .. في حال اقترابه تمكنت من رؤية الخدوش على وجهه ويديه وكأنه قد خرج من معركةٍ حامية الوطيس للتو ....
هو خالف توقعاتها لم يغضب لم يضربها أو يطردها بل ارتخت قسمات وجهه وهو يتساءل من تكون وقبل أن تجيب
التف من خلفها وبدأ بدفع الأرجوحة حسناً استعدي للتحليق عالياً تمسكي بالأرجوحة وإذا فقدت توازنك اخبريني سريعاً.
خانتها دموعها حين تذكرت لحظة مغادرتها فناء القصر نداها باسم ليس اسمها جنة ...
لم تخبريني ما اسمك؟ أطرقت مفكرة للحظات لماذا جنة بالذات هل تشبه فتاة بهذا الاسم أشارت للزهور جانبها مرددة ورد
ضحك ملوحاً جنة ورد وأنا الفارس المقدام عودي في الغد ...
عادت تدك عظام صدرها ضربات قلبها الحائر ... لماذا غاب كل هذه السنين ترى مازال يذكرها؟ قيل انه مات في حادث السير ولكنها لن تخطئه أبداً حقاً كانت طفلة حين مات.
ربما تخطئ ملامحه ولكن قلبها يعرفه يعرفه جيدا ...
أرخت جسدها وألقت برأسها على حافة السرير عيناها تطوفان في سقف الغرفة
يا الله ... هل يعود الأموات ... إن كان كذلك فلماذا لم تعود أمها وشقيقها , لا هم لا يعودون إذن كيف عاد هو ..؟
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
16-05-18, 05:34 PM
ج2
نفضت رأسها تحاول النسيان لكن نبرة صوته حين تحدث تمنعها وتجعل النوم حلماً بعيد المنال نظرت للنافذة.
هل يفكر هو بها ... إن كان هو فارس هل يذكرها لكنه آسر ... نعم سمعتهم يخاطبونه بهذا الاسم ... حسناً آسر هل يفكر بها .. هل لها وقع في نفسه وقلبه . كما له في نفسها...
في الفندق الكبير... تحديداً في الجناح الخاص بالبعثة المختصة بالتنقيب عن الآثار كان الصمت والهدوء يوحي بأن المكان خالي لا يقطنه أحد. لولا تلك الدموع التي ترقرقت من مقلتين جرحهما اللقاء دون أسباب.
ضغط على قلبه... محدثاً صديقه أخبرتك أني راضٍ عن كل ما مضى عن الحاضر عن المستقبل وما قد يأتي معه من عذابات على أنني في حيرة من أمري
كنت على الدوام أشعر أن شيئاً ينقضي شرخٌ في صدري لم يرممه المال والمنصب ولا المال والمعرفة. الآن أنا قادرٌ على القول أن قلبي لوحُ زجاجيٌ مكسور لست أدري كيف عثرت على جزئه المفقود, وكيف التئم رغم كسره طوال السنين الماضية ,هي جزءٌ مبتورٌ عني كنت أبحث عنها طوال ما مضى من وقت ولم أجدها, قد شعرت بالاكتمال بالاكتفاء بالامتلاء حين وجدتها وعندما غادرت أخذت ذلك الجزء معها مجدداً ...
هذا ليس حباً... أنا لم أشعر بالحب لا تضحك ساخراً لا تصفق وتردد مصفراً أنني وقعت أخيراً ..
لربما كنت غارقاً منذ البدء في بحر الهوى على أن غيابها منع عني نبضه المجنون
لكن ما أحدثك عنه الآن يختلف عن الحب. وكأنها الوطن, الوطن الذي فقدته مرغماً ثم غادرته راغباً غير مترددٍ ولا عابئ...
قد تظن مساً من الجنون أطاح بي. أقسم يا صديق الأمر مختلف...
سأحاول في الغد أن أجد إجابة شافية أما الآن سأخلد للنوم. حالما بذلك الوطن من جديد...
تقلبت في فراشها... نظراته لا زالت تطاردها تخبرها شيئاً لكن لا تعرف ما هو وربما تسألها عن أشياء, حتى فارس نفسه لا يسأل عنها عيناه فقط من تسألان.
ضحكت بمرارة فارس مات ليعود آسر, لا استيقظي هذا شخصٌ مختلف ولكن اخرسي دون لكن... آسر موظف في وزارة العلوم الأثرية.
قادم مع بعثة أهدافها محددة ربما حضر ليسرق آثار أرض الحب ويطمس تاريخها العريق
وأنت طالبة في كلية الآثار ومهمتك الحفاظ على تاريخ بلدك, ومنع الأغراب من سرقة آثارها ومجدها العريق
إذن... نحن خصمان...
لا تدري كيف غرقت بذكريات اللقاء مجدداً لقد سمعت النداء في مكبرات الصوت.. مجموعة الأبحاث الأثرية توجهوا للقاعة الخامسة في مبنى علوم الأرض الطابق الثالث
اجتمعوا هناك ومن بين ثلاثين شخصاً تعلقت عيناه بها للحظات.
وجه بصره للشخص التالي على أنه عاد لها بعينيه سريعاً وكأنه نسي شيئاً ما ويريد استعادته حدق بها طويلاً نظرات شخصٍ يعرفها لكن...
آه لو تعلم ما يأتي خلف لكن هذه
بعد فترة ابتسم حياها بحركةٍ بسيطة وكأنه يفتح آفاقاً للحوار الصامت ما بينهما..
على أن أحدا ربت على كتفه منبها له...آسر الأستاذ حمد يريد الحديث إليك.
تنبه وكأنه سقط من عالم بعيد على حين غرة, عيناه الغاضبتان يا الله, أنهما عيني فارس. نفس الغضب نفس النظرة . جنة خضراء تطل عليك منهما رغم أنف الغضب...
هكذا انتهى اللقاء...
حاولت الهرب من جحيم الأسئلة إلى جنة فارس .
دميتها البالية - كم تحبها - كانت تحتضنها وتريها الزهور المختلفة في الحديقة تحدثها عن الألوان البديعة والروائح العطرة التي تنبعث من كل زهرة على حدة
هي لم تخاف ولكنها تفاجأت وربما حزنت لأن دميتها البالية تحكي عن حال الفقير وحاجته
جنة ورد... لقد حضرت كنت بانتظارك لذلك تجنبت المشاكل
حدقت به حين مد يده يأخذ الدمية دون إذن مسبق دميتك جميلة... لكنها حزينة, تراها فقدت شخصا ما لتكون بهذا الحزن كله...
أطرقت مفكرة... هل يحاول إخباري أن فقد الأحبة من يبلين... كادت أن تجيب حين أخرستها دمعةٌ معتصمة في جنتيه الخضراوين
أتعلمين أملك واحدة لكنها قطنية حسنً قد تكون حزينة هي الأخرى, انتظري لحظات سوف آتي بها... أعاد دميتها ورحل سريعاً ليعود بخطى بطيئة ثقيلة... كأنه يوشك على الفقد بإرادته ولكن دون رغبة , ترى ما الذي يدفعه إلى ذلك.
مد يده بالدمية القطنية دبٌ أبيض وأسود بحجم طفلٍ صغير يبدو قديماً ليس بالياً ولكن ربما تعرض لحادثٍ ما
حدقت به طويلا قبل أن تمسكه بيدين مرتجفتين حافظي عليه جيداً, أقسم لك
هو آخر ذكرا أملكها لأمي وشقيقتي الكبرى..
إذا كانت كذلك فلماذا تعطيني إياه, ضربها على مقدمة رأسها ضرب خفيفة مبتسما يغالب غصة البكاء في حلقه.. الرجال لا يلعبون.. الألعاب للأطفال فقط.
أنا لست طفلة... بل أنت كذلك إذن أنت لست رجلاً.
أرتجف قلبها خائفاً ربما يضربها إن غضب,
\
\
يـتـبـع
محمد الطيب
16-05-18, 06:12 PM
الفاضلة متاهة الاحزان
إبداع ممتع ومتميز
نتابعك بنهم وشغف
متاهة الأحزان
18-05-18, 06:19 PM
أيها المتألق
شرفٌ لي ولهذا الحرف حضورك
رزقك الله جنائن الرحمة والغفران
متاهة الأحزان
18-05-18, 06:24 PM
ج3
, حدق بها طويلا ثم نكس رأسه ينظر أسفل قدميه, أكبرك بثلاثة أعوام ألا تكفي هذه لأكون رجلاً
استرخت وأخذت نفساً عميقاً هو لن يعاقبها إذن تنبهت على صوته الحزين
المصائب وحدها من تجعلنا نكبر رغم هذا قد لا نكبر مهما طرقت عظام صدورنا, إن أجدنا تجاهلها والفرار من وجه الحزن عديني أن تبقي طفلة مهما كبرتي
أو على الأقل أن لا تسابقي الأيام فتسبقيها, لا جمال على هذه الأرض يشبه الطفولة فلا تكبري أبدا
في تلك اللحظة مسح دمعة خائنة هربت منه عنوة وحدق بها من جديد... يقول أبي الرجل لا يبكي وأنا لن أفعل, ستحافظين على الدمية أليس كذلك؟
هزت رأسها مطمئنة له أنها ستفعل أمسك يدها,هيا إلى الطيران.. وذهبا إلى الأرجوحة.
أخيرا قررت أن تسأل... هل تفتعل الشجار مع الآخرين لأنك رجل ؟
أطرق مفكرا ثم هز رأسه نافيا
ماذا إذن ...؟
أنا لا أفتعله أبداً...
لماذا جنة حتى دون أن تعرف اسمي؟ ولماذا جنة ورد ..؟
الفارس يا جنتي رجل عظيم لا يدوس الأزهار لا يقطع الأشجار لا يقتل الأطفال لا يعترض درب النساء,ولا يقاتلُ أعزلاً مهما كان وقع الحرب عظيم.
ولأنني فارس يعشق الأزهار ويحميها كنت أنت الورود, ولكنك بالنسبة لي جنة لست اعلم السبب فلا تسأليني وثقي فقط أنك جنتي يا صديقة...
حسناً لن أسأل أكثر هو سؤال واحد فقط. هل هناك سببٌ آخر لأكون جنة ورد..؟ ابتسم مشيراً لعينيه.. أي بقول الجنة خضراء وبالنسبة له عيناي جنة, والجنة دون ورد لا تكون هل اكتفيت ؟
ابتسمت برقة, أخبرته بسمتها عن كم الرضا المنبعث في نفسها
بعد لحظات كانت تحلق في سماء الحلم على أرجوحة يدفعها فارس ضاحكاً, منغمساً بمتعةٍ لم يعرف لها مثيل منذ عام مضي حيث رحلت السعادة مع أمه وشقيقته وأقبل الشقاء بانتقال عمه وزوجته وولديه لقصرهم الكبير .
فوالده منشغل على الدوام... وعمه يتربص بمكر... وأبناء عمه يستميتان في أخذ ما ليس لهم بل ويشاجرانه ليتنازل عن ما يملك وعن جميع حقوقه لتكون لهم
عيون زوجة عمه خبيثة كعيون ضبع يتربص بغزال صغير على أطراف القطيع ينتظر توهانه أو تأخره قليلا حتى ينقض عليه فيقضه بأنيابه حياً
في صباح اليوم التالي استيقظت قبل موعدها بكثير حسناً هي لم تنام أصلا لتستيقظ. غادرت فراشها إلى الحمام غسلت جسدها من آثار الأمسية البائسة على أن الماء لم يصل إلى عقلها الباطن أو حتى لقلبها المحترق لذا لم يتغير شيئا من بؤس ليلتها البادي على وجهها بوضوح
أبدلت ملابسها وغادرت إلى الجامعة سريعا فهي ترغب في رؤيته مجدداً... بل تكاد تحترق بتلك الرغبة...
في حرم الجامعة التقت صديقتها وطلبت مرافقتها إلى مقر البعثة الأجنبية على أن ندى رأت فيها شيئاً مختلفاً هذا النهار
الله الله ـ ورد في حرم الجامعة قبل الثامنة ما لذي حدث...هل سقط نجمٌ من السماء ؟
تذمرت ورد بطفولة :هيا لا أريد أن أتأخر
نظرت لها ندى نظرة متفحصة ثم ضحكت: هل سقط العصفور ـ لكن أيهم أرداه قتيلاً هيا اعترفي
أجابتها ورد بغيظ مكتوم وبحة بكاءٍ واضحة :تعلمين أين سقط ومنذ متى (ضحكت ندى وهزت رأسها نافيه ـ طرقت الأخرى بقدمها الأرض بعصبية )حسناً لن أراوغ فأنا لم ولن أعشق إلا رجلا واحد
صمتت للحظات ثم قبضت يدها فوق صدرها وكأنها تمسك قلبها : إنه فارس.
ضربت ندى كفيها ببعض متذمرة:ياااااه ألم ننتهي من قصة ذاك الفارس أبداً يا أخيه لقد مات وانتهى (نظرت لدموع صديقتها فتابعت بتأثرٍ واضح) حسناً حلق في السماء ذهب إلى الجنة.
هزت ورد رأسها باكية : لا تحددي قولي سكن الجنة...وقبضت يديها قريباً من بعضهما برفق وكأنها تحمل شيئاً تخشى أن تكسره الجنة ليست جنة السماء فقط أخبرتك كان يسميني جنة ورد وقد سكنني أيضا،ثم غادرت راكضة إلى حيث يجتمع أفراد البعثة
إذا كان فارس يسكنها حتى الآن كيف تركض إلى آسر بهذه القوة ولماذا ...لماذا غضبت من مزاح صديقتها ـ تراها أصابت بتوقعها عين الحقيقة ،تراها لمست ذاك الإحساس الرابض في القلب رافضا له العقل الذي سرعان ما سيرضخ ويستسلم ـ غيرت وجهتها باللحظة الأخيرة فاصطدمت بأحدهم،كادت أن تسقط لولا يدين قويتين تداركتا الموقف وأمسكتا بها باللحظة المناسبة رفعت رأسها معتذرة فاصطدمت بجنتيه مجدداً لم تعتذر فقط أطالت النظر ثم هزت رأسها بعنف باكيه
كلا ...لقد مات ...لقد مات رحل منذ زمن .
أرادت الرحيل سريعاً بأي اتجاه لا تجده فيه على أنه شدد قبضته عليها:
إن كان في البكاء لك راحة فافعلي مع أن الدموع لا تستعيد الراحلين أما إن كان يسكنك رغم أنف الموت فحافظي على هدوئك حتى لا يسقط من قبر صدرك فتفترقان من جديد.
شلت حركتها كلماته حدقت بجنتيه مجدداً: أخبرني هل يعودوا الأموات ...هل يغادرون التراب...؟ إن كان ذلك فأين أمي وأخي لقد رحلا بعده مباشرة وإن كانوا لا يعودون فكيف...
\
\
\
يتبع
عبدالرحمن منصور
19-05-18, 03:09 AM
تعودت أن أرد على المواضيع بعد قراءتها
ولكن هذه الصفحة سأرد عليها قبل أن أقرأها
لأني أثق جيداً بتألق قلم صاحبتها وعلو قامتها في عالم القصة القصيرة
ولسبب أخر فقد أرتبط شهر رمضان المبارك في قطرات أدبية
بإطلالة هذا القلم المبدع هذا القلم المعطاء
وكأننا على موعد جميل في كل عام لنعانق هلالين ونصافح قمرين
ففي الوقت الذي يعلق فيه الناس فوانيس رمضان
فمتاهة الأحزان وعلى مدى سنين مضت اعتادت أن توقد لنا فانوساً أدبياً
يشع إبداعاً ويتقد جمالاً وتزدان به قطرات أدبية في هذا الشهر الفضيل
فكل عام وأنت بألف خير
وكل عام وهذا القلم يزخر بالجديد
متاهة الأحزان
23-05-18, 06:03 PM
لجمال ردك إنحنت أبجديتي شكرا وعجز عن ردٍ يليق
دمت منارة ترشدنا للنور كلما تهنا في دهاليز الظلام
والله شهادة شخصٍ كأنت وسام فخر أتقلده
باقات الشكر والعرفان
متاهة الأحزان
23-05-18, 06:06 PM
ج4
بُتِر السؤال على شفتيها حين سمعت أحدهم ينادي ...أسر هل حدث شيء؟
نكست رأسها باكيه :نسيت ...لست هو لكنك تشبهه,تشبهه كثيراً إلى حد الجنون صدقني.
أرادت الرحيل في هذه المرة أطلقها وسمح لها بالابتعاد ...بكيةٌ هي أتته كريحٍ عاصفة ورحلت كزهرة سحقها الخريف بلا رحمة .
هو يعلم يقيناً أنها تبحثُ عنه لكنها قتلته باعترافها الصادق ,هي تبحث عن رجلٍ آخر فيه هل هما متشابهاً حقاً.
فرك يديه ببعضهما باضطراب :أخبرني يا صديقي مع هذا الكم من الوجع هل سأستمر أم أنني سأعود للماضي مكرها أبحث عن ما سقط مني ولم أكترث.
ربت على كتفه: طائرٌ مجروح بالفقد هي ,يثقلها الحزن وتعصف بها رياح الكآبة لا تقترب كثيرا فهذه المشاعر تنتقل من شخص لآخر كالفيروسات تماما .
ضحك من تشبيه صديقه وألقى نظرة أخيرة نحوها ثم مضى لعمله
تائهةٌ بينهما هي قلبها يصرخ فارس وعقلها يتبع أسر مشطورة بينهما أيهما سيرضخ للآخر أم تراها تموت ممزقة بين العقل والقلب ...وذاك الخيط الرفيع الممتد فيما بين قلبها وعقلها يلتف على عنقها ويشتد حتى تكاد تلفظ أنفاسها.
أمسكت ندى بيدها :أعتذر صدقيني لن أتحدث في هذه الأمور مجدداً لقد ظننتك تخطيتي أزمة رحيله منذ زمن فأنت لم تذكريه أو تبكي عليه منذ عام مضى .
رفعت وجهها الباكي للسماء: صدقاً لست أفهم كيف مات وهو يقف بيننا؟
ربتت ندى على كتفها: محض أوهام أنت راغبة بوجوده ولم تصدقي يوماً أنه مات وهذا الرجل وقع في قلبك المتيم بفارسٍ راحل لذا استقبله على انه فارس.
أخذت نفساً عميق :لم تفهميني بعد ...أخبرتك أنني أشعر به وأنا لم تتحرك مشاعري لرجلٍ قط منذ غيابه.
ندى: هذا سببٌ آخر يدفعك للاعتقاد أنه هو ـ تقنعين نفسك أنك لن تقعي في الحب مرة أخرى فقلبك أضحى قبرا للفارس العابر رغم كونكما طفلين.
نظرت لصديقتها بصمت برهة من الزمن ثم مسحت دموعها أخذت نفساً طويل عدلت ملابسها وشعرها بلحظات تحولت من الضعف والانكسار لتشع قوة من جديد.
ذهبتا للمقر ,بدأ الأستاذ حمد بالمحاضرة التي أعدها عن أهداف العمل خطواته ومتطلباته تفاعل معه الجميع حتى ورد ...ربما أرادت الهرب من قلبها المجنون بعد ساعتين ونصف كانت في الكافي التابع للجامعة مع صديقتيها يتجاذبن أطراف الحديث بخصوص العمل الجديد في التنقيب عن الآثار ودراستها والسعادة تغمر قلوبهن لتلك الفرصة الذهبية التي حصلنها بالانضمام لفريق البحث.
بدون مقدمات وجدته أمامها يطلب الإذن بالحديث معها فغادرن الصديقات تجاهلت جنتيه حاولت أن لاتنظر فيهما فتفقد صوابها.
أخرج هويته :حسناً سوف أبدأ من الصفر اسمي آسر عمري 26 سنة أعمل في الآثار ليس البحث والتنقيب وإنما دراستها والتعرف إلى تاريخها جئت من الغرب والداي مسلمان من أصولٍ مسيحية ـ أطرق مفكراً ـ والدي صاحب أراضي زراعية وأملاكٍ أخرى مختلفة لكنه ورغم ثرائه الفاحش مزارعٌ بسيط يعشق الأرض بل يعشق الطبيعة بكل ما فيها رقة حنان قسوة جنون يربي الحيوانات ويعطف عليها يؤمن بان كل ذي روح يستحق منا الحب والرحمة حتى لو سخره الله جل وعلا لخدمتنا ...حسناً أرجوك انظري إلي.
لم تستطع رد الرجاء فرفعت عينيها إليه لتصطدم بذاك الموج الأخضر من جديد.
أنا لستُ هو ...هل اتفقنا ...؟
ضحكت بمرارة : وهل تعرفه لتقول ذلك؟
آسر:أعرفك أنت فقط قد تتيح ليَ الأقدار فرصة للتعرف عليه لكن لن أغامر فأنا يكفيني ذاك الشطر الراحل عني بلا عودة.
هزت رأسها : تعرفني ..؟ما لذي تعرفه عني
آسر: انظري في عيني حين تحدثيني أم أن لونهما يربك قلبك ويبعثره أشلاء (نظرت في عينيه بتحدي ) حسناً أنا لا أعرف عنك أي شيء حتى اسمك لازلت أجهله لكن وبصدق قلبي يعرفك.
صعقت حاولت الحديث لكنها لم تجد ولو حرفا واحداً يسعفها فغادرته بصمتٍ مميت وقبل أن تغيب تماما قتلها رجائه.
آسر: إن عدت لي مرةً أخرى فلا تبحثي في تفاصيلي عن رجلٍ آخر أرجوك فقلبي لن يحتمل هذا الكم من الوجع.
يا الله كم هو الموت صعب...كم هو مرٌ ومؤلم ألهذا الحد لازال موت فارس يحفر بأعماقها حتى تجرح به شخصٌ كآسر دون أن تعلم ...؟
جلست في فراشها باكية تضم الدميتين إلى صدرها معاً ,ربما أدركت الآن لماذا أهداها الدمية فقد أخبرها أن قلب الإنسان يستشعر قرب الرحيل وربما قلبه فعل هو لم يكن راغباً بإبعاد الدمية عنه لذا عاد لها بخطى بطيئة ثقيلة لكنه أراد الحفاظ عليها لذا أبعدها مكرها على بعدها راغباً ببقائها ما بقيت ورد.
تأوهت :لو أنني أستطيع الرحيل إليك ولكن تعلم ؟ حتى لو تقاطعت دروبنا في العالم الآخر فأنا لن أتوقف ولو لإلقاء التحية ...بل سأفر منك وكيف ألقاك وأبي يحمل على أكتافه وزر دمك المسفوك ظلما وبهتانا.
عادت تنخر عظام صدرها كلمات أبيها الباكي
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
24-05-18, 05:38 PM
ج5
عادت تنخر عظام صدرها كلمات أبيها الباكي :لن يغفر لي فعلتي فقد وضعت يدي بيد الشيطان لأسقي والدته وشقيقته كأس الموت الزعاف وليتني اكتفيت بل مددت له ولوالده ذات اليد التي ملؤها بالخير الوفير مددتها لهم بالنكران أسقيهم سكرات الموت بلا رحمة لن يغفر لي قاتلٌ أنا لم تستدل عليه عدالة الأرض لتطيح به عدالة السماء بفقد الزوجة والولد ثم فقد الساقين ...لست أتذمر من شدة الأهوال التي ضربتني لكنني خائفٌ من انتقام السماء يا ورد ...نعم خائفٌ من فقدك أيضاً يا ابنتي ,سامحيني أرجوك اصفحي لأبيك الجاهل اعذري ضعفي وقلة حيلتي ,أنا لم أعد خائفا من الموت ولكن اعترافي الآن لن يجدي نفعاً فأنا لست قوياً بمايكفي لأجابه الأوغاد كما أنني لا أملك دليلاً واحداً يدين الطاغية أي كلمة سأتفوه بها الآن ثمنها حياتك يا جنة .
طرقت رأسها بحافةالسرير باكية :ليتك لم تخبرني الحقيقة يا أبي ليتك لم تفعل .
خرجت من غيبوبة ذكرياتها على صوت الخادمة التي قرعت الباب تستدعيها لتناول الغداء غادرت الفراش تقصد الطابق السفلي حيث ينتظرها والدها على السفرة ,أحست بالدوار ينهش روح قوتها فأمسكت رأسها بيديها كي لا تسقط أرضاً.
هل كان ثمن دمك رخيصاً إلى هذا الحد ...من أجل هذا القصر وشركة صغيرة وسيارة فارهه قتلك أبي ...كم كنت حمقاء كيف غفلت عن العلاقة بين مقتلكم والثراء المفاجئ له؟
ترى هل كانت أمي على علم بالأمر لذا أصبحت دائمة الشجار معه بعد أن أصبح ثريا رغم أنها كانت تقبل موطئ قدمه حبا ولهفه حين كان معدماً ...؟
غروره هي الدنيا لقد قتل أمك وأختك بحادث سيرٍ مفتعل لتموت أمي مع أخي محترقين بالمنزل الصغير إثر تماسٍ كهربائي رفعت وجهها الباكي للسماء كم أنت عادلٌ يا الله حرمته من وداع أحبته كما حرم العم عبد الله من وداع زوجته وابنته .
نفضت رأسها محاولة إلقاء الذكريات بعيداً وقد جاهدت لتتماسك من جديد على أن السؤال ألحَّ عليها فلم تتمكن من الكتمان : هل تأكدت من موته بنفسك؟! أقصد هل رأيت جثته بعينيك ؟ هل حقاً دفن جوار والده ؟
كان ينظر لها بعينين مكسورتين فهو يعلم جيداً أنها لم ولن تسامحه أبداً: لم أراه ولكنه دفن مع أبيه على الحدود الجنوبية المشتركة مع الدولة المجاورة حيث ما
فصححت له قبل أن يكمل: حيث غُدر يا أبي والفرق بين الموت والغدر كالفرق بين مركز الأرض والسماء السابعة ...أليس كذلك؟
نظر لها والدها برجاءٍ صامت أن ترحم ضعفه :حسناً أنت أبي الذي أحبه وهذه حقيقة لن تتغير مهما حدث لكنه عاد ...ألم أخبرك أنه وعدني بالعودة
أطرقت متذكرة وقد ترقرق الدمع في عينيها :جنة ورد جئت لأودعك وداعا سريعا وخاطف ـ أمسك يديها ـ لا تبكي فأنا سأعود من أجلك أجل أجل أعدك سوف أعود لقد قال لي أبي أن الرجل الحقيقي لا ينكث الوعد ولا ينقض العهد ولو على دمه وأنا أعدك
خلع سلسة فضية من عنقه وعلقها على صدرها لا تتخلي عنها حافظي عليها كي أتأكد حين عودتي أنك كنت بانتظاري حقا ولم تنسي عهدي.
بتلقائية بحثت بيدها عن السلسلة وقبضت عليها بشدة :نعم لقد عدت لكنك تنكر نفسك ولا أدري لذلك سباً أو تفسير
ثم أجهشت بالبكاء حاول والدها الوصول إليها ليمسح دموعها لكنه عاجزٌ عن ذلك تماما فساقيه المبتورتين لن تحملانه لها حيث تجلس ويده الملطخة بالدماء الزكية لن تمتد لتعكر صفو وجهها الملائكي ...تذبحه دموعها تذبحه ببرودٍ حيناً وتحرقه بسعيرٍ يتلظى أحياناً كثيرة.
نكس رأسه يخفي وجهه بيديه عجزاً انكساراً وندم على أن يدها امتدت ترفع رأسه ليواجه عينيها
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
27-05-18, 12:15 PM
ج6
سأبكي للمرة الأخيرة أعدك سأكون قوية ما أمكنني ذلك ...لقد طال عمر الوجع وآن لي أن أنفض أتربته من صدري وأعود للحياة من جديد لكن بلا قلبٍ يعشق ...أعدك فقط دعني أبكي على صدرك هذه المرة.
هي المرة الأولى التي تبكي فيها السماء في مطلع أيلول دون إنذارٍ مسبق وكأنها تشارك ورد قرارها في البكاء لهذه الليلة على أن السماء ستعيد الكرة حين يأتي الشتاء فماذا عنك يا ورد ,هل ستفعلين أم أنك حقاً لن تبكي من جديد ...؟
في اليوم التالي كانت هادئة مستقرة لم ترتبك حين رأته بل هي لم تبحث عنه وقد أدرك ذلك جيداً حاول الاقتراب والحديث لكن صفعة الخذلان على جدار قلبه المكسور أبعدته حاول تجاهل وجودها تجاهل اكتماله بها تحليق روحه وعودة النبض إلى صدره بلا فائدة وجد نفسه في نهاية اليوم أمامها مسيراً هو تحت وطأة إحساسٍ لا يستطيع إماطة اللثام عنه لأسبابٍ كثيرة.
مد يده مصافحاً: إذن لن تبحثي عني من جديد (ارتجف جسدها حين رأت يده بعد برهة قبضها إلى صدره) حسناً حتى الصداقة أمرٌ ترفضيه أراك اليوم مختلفة تماما وكأنك لست فتاة الأمس .
ورد: فتاة الأمس ؟ حقاً لا تعرف اسمي !؟ ـ هز رأسه نافياً ـ أنا ورد .
ابتسم : ورد؟ تعلمين ظننت أن اسمك ـ ابتلع الكلمات هل ستفهم ما يعنيه هل يحق له الاقتراب وقرع أبواب قلبها المغلقة بإحكام تراها تتركُ ذاك الراحلُ يوما لتحتضنه بحب تنبه من شروده على عينيها المعلقتان بشفتيه باضطراب ـ حسناً يليق بك اسم جنة...
بدت كمن أصابته صاعقة فاحترق مرت دقائق كأنها فصلُ شتاءٍ لا ينتهي .
قُلتَ جنة ...لماذا جنة بالذات؟!
هز رأسه والحزن بادٍ على محياه: لا أعلم أقسم أنني لا أملك أي تفسير ...حين رأيتك للمرة الأولى اعتقدت أنك جزءٌ من الجنة أرسله الله لأهل الأرض رحمة ,حاولت التعرف على بقية أعضاء المجموعة لكني لم أستطيع فكلما حاولت النظر لآخر اكتشفت أن عيناي لازالتا معلقتين بوجهك الملائكي يرتبطان بأطراف سلاسلك الذهبية,لم أسال عن اسمك أنت على وجه التحديد لأني اكتفيت بكونك جنة.
نظرت لشفتيه تستجدي رداً سريع: اكتفيت قبل أن تعرف اسمي فهل أنت الآن راضٍ؟
نظر للسماء: ستبقي جنة.
ردت بغضب: لكني ورد.
ضحك بمرارة: بل جنة ورد.
تحجرت الكلمات في حلقها,هل هما متشابهان إلى هذا الحد لم تشعر إلا وهي تقبض على كفه الأيسر : تعال معي سأريك شيئاً ما.
مضى معها بصمت لا تدري لماذا تفعل ذلك هي لا تجد مبررا وهو ينساق خلفها بصمت يقتله الوجع ...ألازالت تبحث عن فارسها في تفاصيله أم أنها تستشعر اكتماله بها ؟
في باحة القصر أفسحت له المجال ,لم تتحدث فقط تركته يتأمل بصمت بعد وقتٍ ليس بالقصير نظر لها كتائهٍ في ظلمة البحر يستجدي للنجاة سبيل.
دنا منها يهمس بوجع: ثمة سرٌ صغير لن أخبر أحداً به حتى نفسي لم أحدثها به منذ زمنٍ بعيد ...يقول أبي إذا أردت قتل حقيقةٍ ما عليك عدم الاعتراف بها لنفسك أولاً وللآخرين ثانياً هكذا ستضمر وتتلاشى لتكون وهماً ...سامحه الله لم يخبرني أن الحقائق لا تموت أبداً بل تركن إلى الصمت حتى يقع ما يشعل فتيل الحياة فيها من جديد.
سألتك بالله ما لذي أردته من مجيئي إلى هنا ؟؟؟!
ابتعدت تشير في كل اتجاه: هل تراني ...هل تخيلتَ كيف قضيتُ أيامي هنا, أخبرني مالذي أوحاه لك القصر ...أنني فتاةٌ مرفهةٌ مدللة و
قاطعها : أبداً لم تقتحم خيالي طفلة كالتي وصفتي رغم الثراء الفاحش وأشار بعينيه لمدخل القصر.
قطفت جورية حمراء: حسناً لا أعلم لماذا أحضرتك إلى هنا ولكن استمع لي ولوجعي إن كنت قادراً على ذلك.
مضت نحو الأرجوحة ـ أمضيت سنةً بأكملها في هذا الفناء برفقته لم يتركني يوماً وحيدة كان يسليني بأحاديثه الكثيرة والمثيرة فهو أكبر من عمره بكثير أخبرني ذات مرة أن المصائب تُبلينا قبل الأوان. كان طفلاً بألف رجل ذكرياتنا لم تبرح رأسي يوماً كما أدمنت رائحة الياسمين فقد توجني به مراراً.
هو رحل مكرهاً فقد نالت منه يد الغدر مع والده على الحد الجنوبي من البلاد حين ودعني وعدني أنه سوف يعود هو حتى الآن لم يفي بوعده ـ نظرت في عينيه ـ أليس كذلك ؟!
قسمات وجهه تصرخ وما أدراني أنا لم يعد يقوى على التفكير وقلبه يصيح أعرفها حقاً أعرفها.
ورد: حسناً يا صديقي لقد مات اقتنع الجميع إلا قلبي .
خرجت الكلمات من فمه بلا تفكير: ما وجه الشبه بيننا؟
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
07-06-18, 03:19 PM
ج7
ورد: جنتيك نبرة صوتك قلبك ينبض بطريقةٍ أعرفها ـ نظرت في وجهه ـ أكاد أجزم أنها نفس الملامح فأنا لم ولن أنسى ذاك الوجه ما حييت لكنك غربيٌ من أصولٍ مسيحية وهو شرقيٌ من أصولٍ مسلمة ألا تكفي هذه لتكون نفسك فقط؟!
أمسك يديها: حسناً كما أخبرتك أيضاً قلبي يعرفك بطريقةٍ ما لن أتطرق للحديث عن الحب الآن فهو إحساسٌ آخر لا تصفه أبجديتي مهما كانت بلاغتها ولكنك لم تأتيني من أجلي بل من أجله ...أكبر فيك الحب الذي زرع في صدرك طفلة ليكبر معك دون أن تطاله يد الردى رغم موت الحبيب على أن قلبي المكسور لن يحتمل ضربةً أخرى لأنه سيطير غباراً مع الرياح ,سيبقى صدري فارغاً للأبد فهل يرضيك رقودي كفا
أغلقت فمه بيدها وهزت رأسها ترجوه ببكاء: أنت لن تموت عدني أنك لن تفعلها.
ضحك من تلقائيتها: منذ متى شرخ قلبك الغياب؟
نظرت في جنتيه:منذ أحد عشر سنة.
أطرق مفكراً: ستغادر البعثة أرض الحب بعد أسبوعٍ ونصف ,هل نلتقي كل يوم إلى أن يحين موعد الرحيل ؟
كتمت شهقتها بيديها هل أتى ليجزيها عن غياب احد عشر سنة بأربعة عشر يوم فقط ؟! هل يحق لها أن تقبل عرضه السخي ...هو يرجوها أن تكون معه لأجله وهي تبحث فيه عن حبيبها الغائب ...لا الأمر ليس كذلك هو لن يفهم ...هي لم تقتنع أصلاً بموت فارسها يوما وليس سهلاً عليها أن تصدق أن الماثل أمامها شخصٌ مختلف فلو كان المر كذلك لمار عاد نبضها حيا به.
ابتسم: لا تفكري كثيراً لن أعترض أعلم يقيناً أنك تريه بي ,الأمر مؤلمٌ حقاً ولكني عاجزٌ عن الاكتمال دونك ...سأمنحك ذاك الفارس الراحل لأمتلئ بك لأكتمل لأغدو عاماً متكامل الفصول لم يبتر ربيعه أبداً على أن تعديني لن يعود ذاك الميت إلى مدفنه بصدرك حين أغادر.
هزت رأسها بالقبول ...حسناً حتماً هي ستحاول غادر القصر على وعدٍ باللقاء في اليوم التالي.
أطيار الحب لم تغفوا في تلك الأمسية بل حلقت فوق رأسها تغرد بانكسارٍ حزين ...تراها تطلب الإذن بالعبور إلى نبضها يال السخافة ومنذ متى كان الحب يطلب إذن القبول .
كانت تراقب حركاته انفعالاته سكناته حتى ضربات قلبه ,هي تعلم يقيناً أنه عاشقاً متيم أتاها مهرولاً راضياً باحتراقه في سعير حبها المدفون.
لم تدرك أن آسر حجب عنها ذكريات فارس إلا حين بدأت تغفو فابتسمت لتمر ليلتها بسلام.
اتكئ برأسه على حافة السرير كان نصف جالس يده على قلبه المجنون فهو يكاد يحطم أضلاع صدره.
إدريس: ألم أخبرك أن التعاسة تنتقل من شخصٍ لآخر .
آسر: الأمر مختلف يا صديقي لست تعيس ولكن...
تذمر إدريس :منذ التقيت بها فقدت بشاشة وجهك ومرحك الطفولي أعلم أنك غارقٌ ببحر الهوى ولكن ...ألست رجلاً يتقن فن النبض ؟ لماذا سقطت تحت سيطرت مشاعرك إذن...؟!
نظر آسر للنجوم المعلقة في السماء: هل تذكر الكابوس ...لقد فارقني منذ زمن اليوم أكاد أجزم أنني سمعت نفس الصوت هذه المرة لم يكن يستغيث ,لم يصرخ أبداً لكني أجهل تماما ماذا قال حين تحدث.
حدق به إدريس مصعوقاً: وهل هذا كابوسٌ جديد ؟كابوس اليقظة مثلاً ؟
هز رأسه باسماً: لن أحدثك عن حبي لها فأنت تعلم كمه وطهره على أنني اليوم رأيتها طفلة ...نعم طفلة تركض خلف الفراشات الملونة نظر لصديقه مبتسماً تعلم كلما حدث أمرٌ يسعدني انبعثت الفراشات من قلبي ملونة تجوب الأفق ...هذا ما أشعر به اليوم رأيتها تطارد تلك الفراشات.
إدريس: فليرحمك الرب...هل أصابك مسٌ أم أنه سحر؟!
طرق رأسه بحافة السرير مراتٍ متتالية:حسناً أخبرني يا فيلسوف العشق ...هل يمكن للأطفال أن يقعوا بالحب ؟ وإن حدث هل يكبر فيهم إلى الحد الذي أراه ـ نظر لصديقة ـ هل يمكن لطرفٍ ثالث أن يقف بوجه هذا الجنون ؟ هل يمكن أن يتحول دفق تلك المشاعر ليغمرني يوماً ما ؟!
ابتسم إدريس: تحبها وتتمنى لو تفعل ...حسناً ربما لا تحبه لكنها ممتلئة به تتشبث بذكرياته حتى لا تكون خواء...حاول أن تملئها أولاً ثم اقرع أبواب قلبها .
آسر:قد لا أصمد ...فقلبي لن يحتمل هذه الخيبة ,صدقني قد أحتمل بل سأفعل تحت وطأة العذابات الأخرى مهما تعاظمت لكن هي حتماً سأجن.
صفق إدريس يديه ببعض متذمراً: يا الله ضاع الفتى ...العذراء تحميك يا صديقي.
ضحك آسر بملء قلبه:إن الله معي فلا تخشى علي هيا للنوم فغداً يوم عمل شاق.
رد إدريس متهكماً: اخرس قبل أن أصدقك قلت لي يوم عملٍ شاق هاه ؟! وتلك الجميلة من سيلتقي بها إن غرقت أنت بالعمل؟
آسر بحزنٍ مصطنع: سأجد حلاً بالغد يا صديق ...ورماه بالوسادة
أعادها إدريس له مفتعلا البكاء كطفل صغير: أعانني عليك الرب أعلم أنك ستستغل ضعفي أمام جنونك .
فضحك الاثنان وقد خلد كلٌ إلى عالمه ورديٌ كان أم حفنة من وجع .مضت الساعات رتيبة لا جديد فيها إلا خفقٌ في قلب آسر لم يعهد له مثيل ...إنها الرهبة من أي شيء هو لا يعلم لكنه يغص بها.
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
08-06-18, 06:17 PM
ج8
في باحة القصر على أحد المقاعد بين زهور الجوري الملونة كانا يتحدثان عن العمل الذي استغرق ثلثي النهار...غادرت مقعدها تشد عضلات جسدها ثم ترخيها ليسقط عنها بعض التعب والملل من هذا الحديث أدرك ذلك دون أن تفصح.
فابتسم هل نتجول بالحديقة سارا معاً جنباً إلى جنب.
آسر: حدثيني عنه ...
حدقت به: لماذا تصر على معرفته...؟!
ابتسم:لم أقصد شخصه بل حياته عائلته سبب رحيله إلى الجنوب.
أطرقت مفكرة: حسناً كنت طفلة لم تتجاوز التاسعة وحين كبرت وكبرت معي أسئلتي لم أجد من يجيب إلا بالقليل القليل.والده من أثرا أثرياء الدولة كما أنه سياسي بارز...اشترى هذه الأرض حيث بنا مملكته إنها أرضٌ زراعيه أعطت فرص عملٍ طيبة لكثر من الفقراء والمحتاجين أبي كان واحداً من عمال الأرض حين استقر في قصره جهد بالبحث عمن تفرقوا بذهاب الأرض ووكل لكل منهم عملاً يقتات منه ,ماتت زوجته وابنته بحادث سير مروع على طريق الريف الغربي.
بقي العم عبد الله وابنه فارس الرجل الصغير لقد عانى الكثير خصوصاً بالفترة الأخيرة.
توقف يداعب ورقيات جوريه صفراء :من ماذا ...من فقدان والدته ؟!
حدقت بيده وابتسمت بمرارة: أتعلم أمراً ...أنت تشبهه حتى بهذا الطبع ( نظر لها مجتهداً أن لا تبدو الصدمة على وجهه واضحة) لازلت تحفظين أدق تفاصيله.
أشاحت بوجهها تمسح دمعة هاربة:لقد انتقل عمه للسكن بالقصر فوالده كثير السفر ,كانوا عصابة ...عصابة مجرمين لم يترددوا يوما بكيل الأذى له ,كثيرا ما تشاجر مع أبناء عمه وتلك المتوحشة البائسة تزيده بؤساً وشقاء.
آسر: لماذا قبل عمه بظلمه؟!
هزت رأسها بمرارة: أخبرتك كانوا عصابة خططوا لسرقة الأموال وتحطيم الجاه بل للخلاص من العم عبد الله وابنه كما فعلوا مع زوجته وابنته.
شهق آسر: إذن كان حادثاً مفتعل ...؟!
ورد: أجل وهذا سبب شقاء فارس الحقيقي ,قتلتا بدمٍ بارد وعدالة الأرض العاجزة لم تستطيع معرفة الجاني أو معاقبته ...هل تعلم ,آخر مرةٍ تشاجر فيها مع أبناء عمه أتى لمنزلنا بحالٍ يرثى له فملابسه ممزقة يده اليسرا مكسورة وعلى وجهه ثلاث كدماتٍ مؤلمة وفي جبينه جرحٌ غائر شق حاجبه الأيسر نصفين وقد وصل عينه على أن الله حفظها من الفقء برحمته .
تحسس جبينه وحاجبه الأيسر بتلقائيةٍ تامة فابتسمت ودون أن يلحظ انتباهها لحركته أعاد يده سريعا للزهرة الصفراء ينقل لها توتره الواضح,لم يستطع البقاء أكثر فتعلل بالتعب من نهارٍ طويل وغادر.
كان قلبها ينبض بشدة هما لا يتشابهان فقط لكن ثمة أمر تحجبه أستار الظلام فمتى ينقشع ليغرقا باليقين...؟!
كان تائهاً متخبطاً في نفسه وقف أمام المرآة يدقق النظر : نعم هذه آثار عملية التجميل بعد أن سقط من العلية فقد تشوه جبينه,نفض رأسه غاضباً...يالك من أحمق هل أحببتها لدرجة التمني أن تكون هو ...؟كف عن هذا الغباء فإن لم تبادلك الحب لأجلك أنت فلا ضرورة للبقاء ...لا ضرورة.
كان قد قرر أن يتجنبها قبل أن يخلد إلى النوم في الليلة الماضية فهو لم يعد راغباً بالتيه الذي يسرقه عنوه على أنه وجد نفسه يجلس معها قريباً من الأرجوحة وليتجنب الحديث حدق بعيداً.
كانت تعلم أنه لا يرغب بمعرفة المزيد فاحترمت رغبته وصمتت لفترة .
نهض من مقعده مبتسماً: هل تركبي الأرجوحة ؟
نظرت لها بذات الصمت تداعبها ذكريات الماضي ,هي لم تركبها منذ رحل فارس عادت بعينيها له ترفض العرض نعم هي لا تريد لكنها نطقت بالقبول ـ ذهلت حتى لسانها خان رغبتها.بعد دقائق كانت تحلق في عمق السماء ضاحكة كما في الماضي تماماً.
سمعت صوت ضحكته فنظرت خلفها لترى وجهه حين يشرق من القلب لكنها فقدت توازنها في لحظات كان قد أوقف الأرجوحة رغم الضربات المؤلمة من هيكلها ...
لقد تدارك الأمر ,كادت أن تقع .
نظرت له بذهول: لماذا فعلت ذلك؟!
كانت الصدمة باديةً على وجهه نظر حوله يبحث عن شخصٍ آخر ثم عاد لها بجنتين حائرتين: ألم تصرخي...ألم تخبريني أنك ستسقطين ..؟!
حنت رأسها لليمين قليلاً تتأمل وجهه بعد لحظات كان قد استدار أمام الأرجوحة جلس القرفصاء يتحسس التراب.
حسناً كما ظننت هنا بضع حجارةٍ ناتئة لو سقطت عليها لأدمت جسدك...
اقتربت منه بهدوء وأمسكت يده اليمنى: هل أنت بخير...ما لذي حدث..؟
عاد للتراب بعينيه: صدقيني أنا لا أعلم ...أنا فقط سمعت صوتاً يصرخ لا تدفعني سأسقط كفا,كفا للحظات رأيتك بأم عيني تسقطين عنها وهي معلقة في عمق السماء لا أعلم تماما بأي اتجاهٍ سقطتي ولكن الدماء نفرت من جسدك ...على أن هذا لم يحدث ...حدق بها أليس كذلك ...؟!أنت لم تسقطي ...
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
10-06-18, 12:26 PM
ج9
نظرت لساقها اليمنى وكفها الفارغ دمعت حين تذكرت: بلى ...هذا حدث يا آسر ...حدث قبل رحيله بيومين فقط ,نفرت الدماء من كفي الأيمن وساقي كذلك ...حسناً انظر إلى هذه العلامة أنها بسبب تلك السقطة .
هب من جلسته بعنف تراجع للخلف بضع خطوات ثم رحل كحلم ربما رحل خلف الأفق فهي لم تراه في اليوم التالي .
ترى ...هل يهرب من شيءٍ ما ...؟ كيف عرف ما حدث معها هل هو مجرد خيال أم زائراً من الماضي عبر محاولاً إجباره للعودة إلى ما كان ؟!
لقد قضى تلك الليلة وحيداً في العراء لم يشعر بالوقت حاول كثيراً ضبط نبضات قلبه بل حاول الخلاص من الصداع الذي فتت رأسه بلا جدوى فلا الدواء ولا الطبيعة الحية استطاعا إيقاف ذاك الزحف المجنون من الوجع إليه.
في اليوم التالي عاد للفندق مترنحاً يطلب شيئاً من الراحة قابله إدريس بلهفةٍ حقيقية لكن المنظر أرعبه : آسر هل ضربت عرض الحائط بتعاليم دينك وقضيت الليلة في الحانة تسكر؟فل يسامحك الرب إن فعلت ثم إن غيابك المفاجئ أقلقني ...فما الداعي له؟!
لم يجيب مر وكأنه شبح ذهب باتجاه السرير ألقى بجسده المرهق عليه وغط في النوم سريعا بدا وكأنه سقط في غيبوبة طويلة استغرقت ذاك النهار بأكمله.
كان قد خرج من الحمام للتو يجفف شعره ويعدل هندامه حين أطل إدريس برأسه من الباب يدعوه لتناول الطعام.
جلس على المائدة وقد بدا عليه التفكير العميق
إدريس: كانت قلقة جداً بحثت عنك وسألت كثيراً لم أخبرها بغيابك ليلة أمس فقط قلت أنك تعاني من الحمى لذا لزمت الفراش ...بدت لي غير مقتنعة على أنها لزمت الصمت ربما خجلاً من فضولها غير المبرر أو أنها شعرت بكذبي وتهربي من الإجابة.
نظر لصديقة الذي حدق به بتوتر أرخى آسر جسده وعاد للطعام.
آسر:حسناً فعلت( مضغ طعامه ببطء شديد وكأنه يهرب من حديث يرفرف على طرف لسانه )أتعلم أمراً يا إدريس ـ نظر له ـ حين دخلت باحة القصر خيل لي أني رأيتها كيف تركض وتداعب الأزهار مستمتعة بها لم يتبادر إلى ذهني أي طيفٍ آخر لذلك ظننت أنه مجرد خيالٍ أتى من حبي لها وافتتاني بها وكأنني أحاول رؤية طفولتها ولكن بالأمس سمعت صوتا يصرخ لا تدفعني سأسقط كفا,كفا...أقسم لك رن الصوت بأذني ولو أني لم أراها بأم عيني تسقط أرضاً لأقسمت أنه صوت جنيٍ يسكن الباحة ...رأيتها تسقط وذعرت من الدماء التي تناثرت من جسدها ...سقوطها وحده من نبأني بوجود تلك الحجارة الناتئة إدريس أنا حقاً أحس بضياعٍ قاتل أشعر أنني أقف في الفراغ أو حتى على فوهة بركانٍ يغلي بت أنتظر انفجاره بي.
تألم إدريس من حال صديقة: حسناً تعلم كم أهتم لأمرك ...أنت أخي الذي لم تلده أمي وإن اختلفت ديانتك استمع لي يا آسر وواجه نفسك بالحقيقة عُدّ لوالديك واسألهما مجدداً عن حادثة العلية وأسبابها ببساطة قصَّ عليهما ما حدث هنا فإن اقتنعت اعلم أنه وهم أوقعك فيه الحب ...أنت تحبها حتى بات بإمكانك أن تكون من أجلها شخصاً آخر.
هز آسر رأسه ضاحكاً بمرارة: يذهلني التشابه بيننا صدقني يذهلني
وبتلقائية تامة تحسس حاجبة الأيسر متفحصاً إصابته,ضحك إدريس محاولاً إضفاء جوٍ من المرح
صدقني جميل ,بل فتان تعلمُ أن كثيرا من الشباب يفتعلون جرحاً كهذا في منطقة الحاجب لأنه يضفي عليهم مسحة من الجمال والقوة.
حدق آسر ببلاهةٍ تامة: تشابهنا حتى بهذه الإصابة ولكنه طفل لو بقي حياً لزالت الإصابة دون ترك أثرٍ يذكر أليس كذلك..؟!
ابتلع إدريس صدمته بتوتر: جسدك مليءٌ بالكدمات .
هز آسر رأسه: ما كنت لأتركها تسقط ...شعرت بفقدانها توازنها ولم أعتقد للحظة أنها قادرة على الثبات من جديد أوقفت الأرجوحة بجسدي دون اكتراث لما قد أعانيه.
نظر إدريس لذراع آسر الأيسر الكدمات التي تلقاها تعادل بقوتها وقسوتها تلك التي تلقاها باقي جسده لامس ذراع صديقة بحنان: كنت ستفقد ذراعك يا آسر أرجوك انتبه ألا تتذكر ما قاله الطبيب حين تعرضنا للحادث قبل ثلاث سنوات؟
حدق به آسر مصدوماً وكأنه نسي الأمر : هل تذكر تشخيص الطبيب ؟... هل تعلم أنني نسيت الأمر كلياً ؟
ابتسم إدريس رغم الألم البادي على وجهه:
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
14-06-18, 12:58 PM
ج 10
ابتسم إدريس رغم الألم البادي على وجهه: لقد قال أن بذراعك أثر كسرٍ قديم عظمه هش لن يتحمل المزيد ربما لم تجد العناية اللازمة في ذلك الوقت.
أطرق آسر مفكراً: لم يحدثني والدي عن إصابة كهذه تراه لا يعلم أن يد وحيده كسرت ...ثم كيف لي أن لا أتلقى العلاج اللازم وأنا في كنف عائلة كعائلتي...؟!
صعق إدريس ورد بتسرع: ربما حدث يوم حاولت الانتحار ...ثم إن بعض الأطباء مهملون ولا يكترثون لصحة مرضاهم.
نظر له آسر بحيرة ثم هز رأسه بلا قناعة : حسناً ربما,سأخلد للنوم غادر المائدة قاصداً سريرة .
فتبعه إدريس بغضب :أنت لن تنام أعرف ذلك جيداً بل ستغرق بوهم أفكارك حتى تبلى ...أرجوك يا أخي لماذا تفعل ذلك ...لماذا تنتقم من نفسك ...آسر أنت أخي كنت لي خير سندٍ ومعين حين احتجتك انتشلتني من حضيض الوحدة والضياع والآن ولأنك بحاجة لكتفٍ تتكئ عليه تتهرب مني ...هل أسلم لكي تتخذني سنداً أخاً وصديق ؟
عاد له آسر يغالب غصة البكاء عانقه: أنت رجلٌ أحمق كيف تظن بي السوء
بكى الصديقان كلٌ على كتف الآخر لبضع دقائق ...توقفا عن البكاء معا حدقا كلٌ بعيني الآخر وضحكا معا
صرخ إدريس: يالك من طفلٍ باكي وضربه على كتفه.
فضحك آسر هاتفاً: وأنت طفلٌ مدلل تبكي بلا سبب.
تلك الليلة قضاها إدريس مع صديقة في العراء بين أحضان الحقول الغناء ثم ذهب للكنيسة وصلى للرب من أجل صديقة أما آسر فقد أمضى ثلث الليل الأخير بمسجدٍ صغير بطرف القرية المجاورة.
مضت الساعات بصمتٍ ثقيل كلٌ منغمس في عمله بجد كانت تراقبه بأسى بلوعة فقد ضاع منها يوماً بأكمله دون أن تراه .
في نهاية النهار كانا سوياً يفترشان الأرض ويلتحفان السماء في واحدة من أخصب الأراضي الزراعية وأروعها مظهرا وترتيب.
حدقت به باسمة: لم تحدثني عن حياتك أبداً حتى أنني أجهل كل شيءٍ عنك.
نظر لها بحنان: أنا كتابٌ مفتوحٌ أمامك فاقرئي فيه ما شئتِ.
نظرت بعيداً: حسناً حدثني عن والديك ـ نظرت له بسرعة وكأنها تذكرت أمراً مهماً للتو ـ صحيح لم تخبرني كيف أسلما ولماذا...؟!
ضحك حتى تلألأت الدموع في جنتيه ثم غرق في عالمه الجميل: جورج رجلٌ عقيم لا ينجب الأطفال ـ نظرت له مصدومة هز رأسه ـ الأمر يحتاج في كل محاولة لعملٍ جراحي نسبة نجاحه ضعيفة ... على حد قوله لقد أكرمهم الرب واستجاب دعائهم فأثمرت إحدى محاولاتهم بجنين ذكر, لقد اكتفيا بي.
أسلما قبل ولادتي ...يقول جورج أن داعية إسلامية مر بهم ولحادثٍ ما اضطر للإقامة في منزلهم على أنه لم يغادرهم إلا بعد أن تعلقت قلوبهم بحبال النور.
اعترضت عائلة والدي بشدة لكنها رضخت لرغبته بالنهاية أمي قاطعتها عائلتها ثم غادرت البلاد بعد فترةٍ وجيزة ,هي حتى الآن لا تعرف لهم دربا ولا تعلم عنهم أي خبر لكنها ليست نادمة فالله ملئ قلبها بالرضا والسكينة .
هما يعشقان الأطفال لذا بنى والدي ميتماً كبير وآوى به مئات الأطفال من المشردين والأيتام أما أراضية الزراعية فقد جعل منها باب رزقٍ يفتح بوجه كل محتاج أياً كان دينه أو عرقه.
ابتسمت: هل يربي أطفال المسلمين فقط...؟
تحسس آسر ذراعه الأيسر بشيءٍ من الألم :كلا يأوي الجميع,أوجد بالميتم مدرسة خاصة يعلم الأطفال اللغة العربية القرآن وتعاليم الإسلام إضافة إلى لغة الدولة الأم.
استفسرت بدهشة: ألا يعلمهم المسيحية...؟!
هز رأسه نافياً: يقول أبي أن الدين هو الإسلام ولن يزرع في نفوس الأطفال إلا ثمراً طيباً مباركا وحين يكبرون سيختار كلٌ منهم الديانة التي يريد ولكن وهم في كنفه وتحت رعايته لن يوجهوا لغير الإسلام.
نظر لها مندهشاً من صمتها المطبق كانت تحدق بذراعه الأيسر والدموع تعتصم في عينيها تحسست كدمة زرقاء بخفه وطأطأت رأسه معتذرة: كادت تكسر .
رفع رأسها بأصابعه باسماً: لا عليك لم يكن خطأك ...أنت لم تستغيثي كنت قادرة على التماسك والثبات من جديد ,خيالي الخصب من فعل بي هذا ـثم ضحك كانت تراقبه بصمت نظر لها من جديد فنكست رأسها ـ أخبريني لماذا نظرت خلفك ...؟!
نهضت تقول بتردد: أردت أن أرى شروق الشمس في وجهك من جديد.
نهض ينفض التراب عن ثيابه: أضحك كثيرا لماذا تلك اللحظة على وجه التحديد؟
نظرت بعيداً: كثيراً ما استرقت النظر لوجهه حين يدفعني على الأرجوحة لم يضحك أبداً في أي موقف كما كان يفعل حين يدفعني عليها بقوة بل بجنون.
آسر: إذن كانت الشمس تشرق من وجهه في تلك اللحظات ...؟
نظرت له فحول عينيه لكومة من أوراق الشجر راح يدهسها تحت قدمه بتوتر, هي تعلم أنه يرفض الاستماع لها رغم هذا يتحرق شوقا للإجابة.
بعد حين أشارت لشجرة قريبة: أتى بي إلى هنا ثلاث مرات قال أنه يعشق ظل هذه الشجرة .
نظر مبتسماً رغم المرارة في حلقه: هل كان يسحق أوراقها بقدمه إذا توتر...؟
ردت ببكاء:إذا توتر نعم كان يفعلها كما كان يمسح أوراق الجوري برفقٍ لا يعكس حجم توتره ...مؤخراً أدركت أن الشمس لا تأتي من الشرق فقط بل تستطع من وجوهٍ عشقناها.
مسح جبينه بتلقائية ثم مد يده لها :ألا نغادر ؟تأخر الوقت كثيراً.
مضى كأنه يهرب من المزيد
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
15-06-18, 05:57 PM
ج11
مضى كأنه يهرب من المزيد,عاد إلى الفندق مرهقاً رمى بجسده على السرير وراح في نومٍ تقضه الكوابيس ,أجل لقد عاد له ذلك الحلم المشوه إنه يصرخ ربما يستغيث ولكن كلا استيقظ إدريس على صوت آسر المختنق فأدرك أنه الكابوس أسرع لصديقة أيقظة وأعطاه كوباً من الماء وبدأ بتلاوة صلواته على رأس صديقة.
بعد فترة تحدث بضيق: ما لذي يريده مني ؟ لقد تعبت ,تعبت منه يا إدريس إن كان قد مات في الحرب فما لذي يريده مني ..؟
مسح إدريس على رأسه: ربما لأنك أردت الانتحار بسببه.
مسح آسر رأسه متذمراً :هل سيعاقبني ما حييت؟ ألن يمل من ذلك..؟
ربت إدريس على كتفه: قم توضأ وصلي سيهدأ ألست من قال أنه يرحل حين تصلي.
نظر له آسر نظرت غريقٍ يلفظ آخر أنفاسه عيناه تستغيثان وقلبه ينتفض والحيرة تكاد تقتله بعد وقتٍ ليس بالقصير قام يجرجر خطواته إلى الحمام ,بينما أعدَّ له إدريس ملابس النوم المريحة ومكث إلى جانبه حتى انتهى من الصلاة والدعاء.
أخذ يده برفق هيا يا عزيزي فأنت هذا المساء طفلي المدلل وستنام بجواري في نفس الفراش.
ضحك آسر :حسناً بابا ولكن لا توبخني في الصباح لأنك تنام بجانب السرير لا عليه.
ضحكا كثيراً قبل أن يستسلما لسلطان النوم من جديد.
كانت تجلس بجوار والدها المحموم هو يهذي وما أكثر بكائه: سامحني يا الله ,لقد استغل ضعفي ,أنت تعلم أنني حاولت ,سامحني يا ولدي هذا كل ما أستطيع فعله.
كانت تستمع له باهتمام لعلها تجد طرف خيطٍ يهديها لمكان الأوراق التي تدين عسكر وتثبت تورطه بكل المصائب التي نسبت للعم عبد الله لكن تلك الجمل المفككة سحبتها لبحرٍ عميق: ماذا يقصد ...لقد أخبرها أنهم ماتوا وقد تم دفنهم في الجنوب ...من هو ولده؟
بعد حين ضغطت رأسها بكفيها ليهدأ الصداع :هل تعتذر لأخي الذي دفع ثمن جرائمك ؟يالك من رجلٍ بائس فقدت كرامتك وعزة نفسك ثم زوجتك وولد ثم ساقيك وها أنت تفقد نفسك أخيراً...آه يا أبتي ماذا فعل لك المال ...سامحك الله وغفر لك.
كانت ليلة صعبة ظهر أثرها على وجه ورد جلياً فاجئها آسر بكوب قهوةٍ ساخن
آسر: يبدو عليك الإرهاق ألم تنامي ليلة الأمس ...؟
هزت رأسها نافيه :كنت أنتظر موت أبي لكن مع شروق الشمس عادت له الروح من جديد.
نظر لها مذهولاً :هل هو مريضٌ إلى هذا الحد ؟!
أخذت رشفة قهوة: أجل يقول الطبيب قد يموت في أي لحظة وقد يستمر على حالته لسنين لا علاج له منذ ثلاث سنوات لا حيٌ يرزق هو ولا بميتٍ يدفن.
هز رأسه بأسف: شفاه الله.
ابتسمت بمرارة: مرضه ليس في جسده بل من أفعاله ,هل تعلم أمراً ...لو عاد فارس إلى الحياة من جديد سأهرب من وجهه لن التقيه أبداً...ـ مسحت دمعة هربت من عينيهاـ لا تسألني عن السبب فقط أخبرني كيف أواجهه وأبي قاتله ووالده ...ماذا أقول له ,تعال لنمضي معاً وسامح والدي الذي يحمل على أكتافه وزر دمكما المستباح.
ربت على ظهرها بحنان: تعاقبين نفسك على جرمٍ لم تقترفيه ...حسناً إن عاد يوماً رغم أن الأموات لا يعودون فقط اركضي باتجاهه ارتطمي بصدره تخللي عظامه واخترقي قلبه كوني الرصاصة التي ترديه حيا ولا موت له إلا بانتزاعك .
حدقت بعينيه بشوقٍ وألم فابتسم طأطأت رأسها خجلاً فقال:أدرك أنك تشتاقين لجنتيه فلتراقبيهما بي حتى تثملي.
همست: بل لجنتيك أشتاق.
صدم حد عقد اللسان أنقذهما من الموقف المربك صوت إدريس منادياً
...آسر أنت يا ولد أين اختفيت ؟؟!
نظر له آسر متذمراً: كيف وجدتنا ..؟!
فضحك إدريس صافقاً يديه ببعض : أعرف,أعرف أنني كهادم اللذات ومفرق الجماعات لكنه الأستاذ حمد أقسم بالرب هو من أرسلني لك فهاتفك مغلق .
ورد: حسناً كنا نشرب القهوة فقط أنت لم تهدم اللذات ولم تفرق الجماعات اطمئن.
ضحك إدريس ممازحاً: يال طيبتك يا ورد إذن أنا لست ملك الموت...؟
ضحكت بمشاكسة: ملك الموت يا صديقي يبقى واحدٌ من ملائكة الرحمان وأنت عفريتٌ من أبناء الشيطان.
صعق إدريس بينما ضحك آسر بشماتة ثم تركه ومضى بعد برهةٍ لحق بهما بخطواتٍ سريعة هذا العفريت يا أصدقاء لن يترككم بسلام أعدكم بذلك قلب عينيه وأخرج لسانه بطريقةٍ مضحكة.
دفعه آسر ممازحاً: حسناً لا ترتطم بالجدار أمامك أيها العفريت الأحول .
تعالا صوت الضحك لفترةٍ ما ثم غرق الجميع بالعمل...كانت تجمع أشيائها لترحل مع ندى حين طلب منها بضع دقائق للحديث,هو يدرك أنها تتهرب منه ربما لم تقصد ما قالته حسناً لن يضغط عليها لينتزع اعترافاً بالحب فهي غارقة بمحيط فارس الذي وجدته به.
آسر: جنتي عندي فضول إن لم تمانعي أن تشبعيه (حدقت به بصمت) قلت أن والدك يحمل وزر دمائهم... كيف حدث ذلك ؟بل كيف توصلت لهذه الحقيقة!
نظرت بعيداً: أبي أخبرني قال أن عسكر خطط لتوريط العم عبد الله بصفقةٍ مجنونة ...رحل العم عبد الله للجنوب قاصداً السفر للدولة المجاورة على أن رحيله سينهي تلك اللعبة الخبيثة فتنكشف أوراق عسكر للقضاء لكن الطاغية استطاع تغير خطته اللعينة ,لا أدري ماذا فعل بالتحديد لكنه دفع الشرطة وجيش الحدود لملاحقة العم عبد الله وحين أدركوا أنه ناجٍ لا محالة أطلقوا قذيفة متفجرة على سيارته.
انتفض آسر صارخاً: يا الله هذا ظلم قتلوا الطفل مع أبيه ـ كان جسده ينتفض ـ هذا جنون,جنون .
أمسكت يده اليسرا: أرجوك اهدأ لا داعي للانفعال ففي معركة الشرف نخسر الكثير من الأرواح البريئة وهذا ليس مهماً في قانون الطغاة.
بعد برهة هدأ كلياً نظر في عمق السماء متألماً : وكأني أراهما وأسمع صراخهما .
بكت ورد: احتفظت بالتسجيل الذي بثته القناة الرئيسية على حاسوبي زماناً طويل كأني كنت أبحث في التسجيل عن بصيص أملٍ لنجاته.
نظر لها: واحتملت قسوة المشهد رغم سنك الصغير...؟!
\
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
17-06-18, 02:47 AM
ج12
هزت رأسها باكية: علمني فارس أننا لا نكبر بالسنوات بل بالمصائب كان رحيله ضربةٌ أولى ومقتله الضربة القاصمة التي كسرت ظهر طفولتي لأغدو صبية ممتلئة بالحزن والوجع (نظرت له)كان العم عبد الله يصرخ ابتعد,ابتعد يده تلوح في الأفق والنيران تبتلع كل من حولها.
اتسعت حدقتي عينيه صدمةً وذهول حدق بعيداً: ...هل تفحمت الجثة ؟
ورد: لم أرى شيئاً كهذا في التسجيل لكن من أتى بالأخبار قال أن ذلك حدث للجثتين ولولا فرق الحجم لما استطاعوا معرفة الأب من ابنه.
أمسك رأسه بألم :يا الله الصداع سيقتلني رأسي يا الله
ترنح للخلف فوضعت يديها على كتفيه حتى لا يفقد توازنه لكنه شعر وكأن يدين قويتين تدفعانه بشده والصوت ذاته عاد يصرخ لا تفعل لا تفعل.
لم يتمالك نفسه فسقط على الأرض جاثياً على ركبتيه صارخاً: ماذا تريد ...أقسم لك أنني تعبت ,لقد استنزفتني بما فيه الكفاية .
في تلك اللحظات تحديداً وصل إدريس مداعباً: ابن الشيطان عاد ـ بَتر دُعابته وضع آسر فركض إليه ـ فليرحمك الرب يا صديقي ماذا حدث ؟
بعد لحظات كان قد أدرك الأمر نظر لورد الخائفة : لا تقلقي إنه كابوس شبح الحرب...لا أدري لماذا يقضُ مضجعه على الدوام وليته اكتفى بالمنام فها هو يداهمه في وضح النهار, الأمر يزداد تعقيداً بمرور الوقت.
نهضت تنفض التراب عن ثيابها: هل هو مريض ؟ إذا كان شبحاً من زمن الحرب إذاً هو يحتاج لعلاجٍ نفسي.
تنبها على صوت آسر المتعب: لا يا جنة أنا لست مجنون ولا حتى مريض كما أنني لم أعد أصدق تلك الأكذوبة.
صعق إدريس بينما ورد تتابع ببلاهة لا تفهم أي شيء...تلك الأمسية كانت الأشد قسوة على آسر بل أشدُ رعباً , الشبح الأسود يتقدم نحوه يهزه بعنف ويصرخ فيه ـ يجب أن تعود يجب أن تعود ـ استيقظ صارخاً ففزِع إدريس على صوته ,كان يلهث وكأنه قطع ألف ميل جرياً سريع.
آسر: سأعود غداً صباحاً سأغادر لن يستمر هذا الجنون سأفقد عقلي حتما.
ربت إدريس على كتفه ولم ينطق بحرفٍ واحد وقد اكتفى بقضاء تلك الليلة بجانب صديقة يتلو صلواته على رأسه ويربت على ظهره كلما فزع من نومه صارخاً .
في حرم الجامعة كانت تبكي بوجع تبكي رحيله المفاجئ ,هو لم يودعها حتى لقد وعدها بالبقاء ما بقيَ أفراد البعثة وعدها أن يحتمل وقلبه عيناها الباحثتان فيه عن فارس ترى ...هل رحل دون وداع حتى لا يموت فارس من جديد..؟!
نعم لقد طلب منها أن لا تجعل من قلبها قبراً أبدياً لفارسها حين يرحل وهي وعدته بالمحاولة ...تُرى هل تنجح ...؟!
نظرت في عمق السماء:نعم سأحاول إن لم يفي هو بوعده سأفعل أنا .
أخذت نفساً عميق ومضت باتجاه إدريس المتوتر لم تسأله عن سبب رحيل آسر كما تهيئ له.
ورد: إدريس فقط أخبره أنني سأفتقده بشدة وفارس لن يعود إلى التراب مجدداً,حتماً الأموات لا ينهضون لكنه فعل ولن يموت من جديد ,بلغه تحياتي ودعواتي له بالسعادة الدائمة.
تركته مذهولاً بعد برهة صفق يديه ببلاهة: العذراء تحميك يا إدريس من فخ المجانين.
مضت الأيام ثقيلة كما كانت من قبل رغم هذا انكبت ورد تبحث عن تلك الأوراق التي يدعي والدها أنها احترقت...ماذا احترقت ...؟!كيف متى ولماذا! هو لم يفعل إذن ربما حدث هذا يوم اشتعل المنزل الصغير بوالدتها وشقيقها كما يقول.
كانت المرة الأولى التي تتجرأ فيها على تخطي عتبات بابه منذ اشتعال النار فيه,دخلته برهبة قاتلة تبحث عن ذكرياتٍ لزمت جانب الصمت طويلاً. بعد وقتٍ قصير كانت قد تخطت خوفها وعاد دفق الذكريات الجميلة يداعبُ روحها.
يا الله كم هي دافئة حياة الفقراء كم هي عذبةٌ لذيذة رغم قسوة الجوع ومرارةُ الحرمان,لقد أدمنته أدمنت جدرانه والحنان المنبعث من حجارته لذا غدا ملاذ نفسها وقلبها كلما أرادت الفرار من ذكريات فارسها الميت الحي.
مضى الشتاء ثقيلاً بطيء وكأنه لا يريد للسماء أن تشرق من جديد على أنه مضى أخيراً لقد جرفها الشوق للحقول الخضراء تحديداً لظلِ تلك الشجرة الكبيرة والتي تحتضن كل عابر لظلها بحنان وكأنها أمه الرئوم.
غادرت إلى الحقل تطير بأجنحةٍ ملونةٍ صغيرة أجنحةٍ لم ترفرف في صدرها منذ زمن.
الربيع تجلى على الأرض بأبهى صورة راحت تجمع الأزهار البرية وتصنع عقداً ملون لم تعي إلا حين أحست بالزهور على رأسها,لم تخف كعادتها فهي سريعة الفزع بل تحسست الطوق بتلقائية فقد اعتادت حركات ندى المضحكة حيثُ تتوجها ملكة ثم تدعي أنها الفارس ذو الحصان الأبيض وقد جاء لاختطاف حبيبته.
لكنها ذُهلت من الرائحة إنها ليست زهورا برية بل زهور الياسمين تحسستها لتتأكد ثم استدارت ببطء لتصطدم بابتسامته العذبة ثم بلون الربيع في عينيه.
لم تتمالك نفسها قفزت تصرخ وقد تعلقت في عنقه متى عدت متى عدت لماذا طال غيابك؟
رفعها عن الأرض ضاحكاً ودار بها: عدتُ من أجلك يا جنتي وكأنك لم تكبري أبداً.
ردت من بين ضحكاتها: ولن أكبر لقد وعدت فارس أن أبقى طفلة رغم أنف المصائب .
توقف عن الدوران وأنزلها أرضاً متسائلاً:فارس؟
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
18-06-18, 01:01 PM
ج13
هزت رأسها سريعاً:أخبرك فقط لماذا لا اكبر لا تقلق فقلبي يدرك جيداً أنك آسر.
ابتسم لها بحنان: هل نغادر فأنا جائع لقد انتظرتك هنا ثلاثة أيام.
صعقت: منذ ثلاثة أيام...! لكنك تعرف الطريق إلى منزلي...ألم تحتفظ برقم هاتفي؟
هز رأسه ضاحكاً: قُلتِ أنه أتى بك إلى هنا ثلاث مرات وقد كنت على يقين من حضورك ذات نهار لذا فضلت انتظارك هنا دون علمٍ منك ,حسناً لم أكن عديم الفائدة فقد ساعدت الفلاحين بما لدي من معلومات عن الزراعة ومعلوماتي قيمة يا جنتي فقد قضيتُ عمري مع رجلٍ يعشق الأرض ويدلل ذرات ترابها.
مضى النهار سريعاً لم يشعرا بمرور الساعات لقد حدثته كيف قضت أيامها ,كان الشتاء حزيناً وبائس لكنها لم تبكي أبداً إلا حين تذكرت رحيله المفاجئ.
مد يده مصافحاً :حسناً لدي أخبار ربما بالغد أحدثك بما استجد هذا إن أعتقني إدريس فهو جاثمٌ على صدري منذ أن قُلتِ أنه من أبناء الشيطان
ضحكا كثيراً قبل أن يفترقا مجدداً ,كان ينتظره بفارغ الصبر بدا متوتراً بشدة
إدريس : هاه... ما الأخبار ...طمئني يا صديق.
ابتسم آسر: أظنها تخطت رحيل فارس وربما أقول ربما هي الآن عاشقةٌ لي أنا فقد قالت أن قلبها يدرك من أكون.
استرخى إدريس: وأخبرتها تلك الحقيقة..؟
زفر بهدوء وشرد بعيداً: لا ليس بعد وأخشى من إخبارها إياها فقد أُحي بقلبها الأمل الكاذب من جديد.
رد إدريس متفهماً: لا تستبق الأحداث ولا تفكر بالأمر كثيراً أخبرها كل شيء ودعها تتقبل الحقيقة بروية وهدوء.
في اليوم التالي لم يحضر انتظرته طويلاً بلا جدوى حاولت الاتصال على رقم هاتفه أو حتى على هاتف إدريس بلا جدوى ...يبدو أنهما جددا أرقام الهواتف.
بعد منتصف الليل وصلتها رسالة اعتذار عن الغياب المفاجئ كما وتخبرها أنه سيتغيب بضعة أيام أخرى.
كانت تصلي لله وتدعوا بأن يحرسه ويرده سالماً معافى وما أن قرأت الرسالة حتى نامت قريرة العين مرتاحة القلب.
بعد أيام قُبيل الغروب طرقت باب غرفتها سيدة الخدم في القصر,وجهها شاحب وعيناها حائرتان...دهشت من ملامح وجهها .
على أن الخادمة سارعت بالقول: ضيوف بالصالة في انتظارك يا ابنتي .
لم تكن تنتظر أحداً فمن القادم في مثل هذا الوقت ولماذا أمينة مضطربة ...؟غادرت غرفتها ترى ضيوفها بلا رغبة لتندهش
إدريس وآسر مرحبا بكما .
كان إدريس حزيناً للغاية,تساءلت عما به
فهمس لها آسر :مات طفلة قضيت الأيام الماضية إلى جواره في منزل عائلة زوجته في الجنوب.
قدمت التعازي واعتذرت لعدم وقوفها إلى جانبه في محنته فهو خير أخٍ وصديق,هو الكتف الذي يستند إليه من يحتاج للسند بلا قلقٍ ولا تردد.
كانت تحدث نفسها وهي تطيل النظر في وجهه: حقاً الدين أخلاق قبل أن يكون شعائر ليتك تُسلم يا إدريس ...فتح الله بصيرتك .
بعد فترةٍ قصيرة خرجوا للباحة وقد قرر إدريس المغادرة تمسكا به ولكنه أبى هو يحتاج للصلاة من أجل ولده في الكنيسة.
هز آسر رأسه متقبلاً قرار صديقة: سأصلي من أجله أنا أيضاً,سألحق بك بعد ساعة لا تغادر الكنيسة دوني.
صعقت ورد وقد تردد السؤال في رأسها هل ارتد آسر عن دينه ...هل غادرها مسلما ليعود مسيحي..؟!نفضت رأسها تحاول طرد تلك الفكرة المقيتة.
كان يبتسم: ما لذي دهاك ...أنا مازلت مسلماً.
نظرت له ببلاهة: كيف قرء أفكارها هي لا تريد العودة للتخبط بينه وبين فارسها على أن فارس وحدة من استطاع قراءة أفكارها ومناقشتها بها دون أن تتحدث حتى.
جلس على المقعد متوتراً بعض الشيء: جنتي لدي خبر على أنني أخشى أن تربطي بين حديثي وفارسك الراحل.
سارعت بالرد: أبدا لن أفعل ...فقط تحدث بما لديك.
حدق بها طويلا قبل أن ينطق: كنت قد أخبرتك أنني أطوي سراً صغير في صدري هي حقيقة عشتُ حياتي أنكرها وأتعايش مع الواقع كأنها لم تكن (لم تنطق فقط عيناها معلقتان برجاء على شفتيه) حسناً لستُ فارس هذا أمرٌ أكيد ولكني أيضاً لستُ ابن جورج الحقيقي كما أنني فاقدٌ للذاكرة أصلاً.
شهقت وقد ضغطت على قلبها بتلقائية تامة ,نظر لها برجاء أن لا تخلط الأمور ببعض نكست رأسها لا تدري أي المشاعر تجتاحها الآن لكن الفضول يأكل قلبها
حسناً أخبرني بالمزيد.
آسر: خرجت من المستشفى إلى دار الأيتام التي أنشئها والدي بقيت هناك فترة من الزمن قبل أن يحتضنني وأنتقل للحياة في منزله ...يقول جورج والدي الذي رباني بأنني لم أكن طفلاً منذ اليوم الأول بل رجلٌ صغير ,أهل لحمل المسؤولية أيا كان حجمها على أنني لم أكن أحمل أي أوراقٍ ثبوتيه وكأنني دخلت تلك البلاد تهريباً كأي صفقة سلاحٍ ممنوعة.
في المستشفى دفع أحدهم التكاليف وأخبرهم أن يرسلوني إلى الميتم.
ربما الأقدار وحدها من دفعتني لأكون بين يدي هذا الرجل الرحيم والذي رباني كابنه تماماً.
أطرق مفكراً: أخبريني يا جنة إذا كنا لا نرغب بالأطفال لماذا ننجبهم إذاً؟هل يجب على مخلوقٍ بريء أن يدفع ثمن متعتنا لبعض الوقت ..؟!
ربتت ورد على يديه المتشابكتان بتوتر: أنت لم تكن ثمرة جناية
هز رأسه ساخراً: قد يكون الزواج أسوء من علاقة قامت في الظلام وماتت فيه,يقول أبي ...أقصد جورج أن والدي قضى بمرضٍ عُضال وأمي تركته بعد أربع سنوات من الزواج تركتني معه ولم تعد للسؤال عني أبداً, ترى ه كان سيئاً للحد الذي دفعها لكرهي أنا أيضاً...؟
ورد: ما سبب دخولك المستشفى إذن؟
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
18-06-18, 02:06 PM
ج14
آسر: حتى جورج لا يعلم أي تفاصيل ,كل ما أخبرني به وجده مكتوباً في دفترٍ صغير بين بقايا ثيابي في الحقيبة المهترئه هو حتى لم يدري هل هي كذلك بفعل الفقر والحاجة أم بيد شخصٍ ما أم أن حادثاً مريراً يقف خلف هلاكها هي أصلا من حقائب الأثرياء ,كانت ماركة عالمية كما رأيت.
سألت جورج لماذا أخبرني أنني حاولت الانتحار من نافذة العلية فقال أنه بحث عن جوابٍ لسؤالي ـ كيف فقدت ذاكرتي ـ فلم يجد أنسب من اختلاق تلك القصة ...بسبب الحرب يا ولدي أصبت بحالة اكتئاب شديدة فحاولت الانتحار منذ ذلك الزمن حرمنا تلك العلية التي كادت أن تودي بحياتك فقد أقفلنا بابها للأبد .
والحقيقة أنهم اخفوا كل ما كان بحوزتي من متعلقات شخصية بداخلها وأغلقوا بابها في وجهي خشية أن أجد ما يثير فضولي الذي لا ترويه أنها الحقيقة المنقوصة والتي لولا ذلك الدفتر ما عرفوها هم أيضاً.
ورد: إذاً أنت الآن تعرف لماذا كان اسمك عربياً شرقي ولا يمت للمسيحية الغربية بأي صلة؟
هز رأسه برضا: أجل ما لم تعرفيه بعد أن جذوري تعود إلى هذه الأرض وتحديداً لأرض الحب ...شرقيٌ أنا ضل الخطى في دهاليز الظلام غرباً وقد رضيت بذاك التيه زمناً طويلاً بلا أسبابٍ مقنعة.
ورد: لماذا عدت تخبرني بما كنت تجتهد لإخفائه ؟
آسر:ربما لأنك مكملة نقصي...منذ البدء كنت تمامي في ليلة النصف من كل شهر وقد أدركت ذلك من النظرة الأولى.
أطرقت مفكرة كانت مترددة في سؤالها: هل تتمنى أن تكون هو...؟
ضحك من توترها: لا ...ليس الأمر كذلك أنا فقط أتمنى أن أكون جزءً من عالمك لست راغباً بحبك لأني فارس بل أريد تلك المشاعر النبيلة لي أنا ومن أجلي أنا ليس من أجله, أعلم أنك قد لا تفعلي يوما .لكن أليس ممكناً أن تقعي بالحب من جديد ذات نهار؟!
نظرت في عينيه: ماذا لو كنت هو حقاً ألن ترضى بمشاعري لك كفارس؟
اتكئ بجسده للمقعد خلفه وأطلق عيناه في عمق السماء: إن كنت هو فلن أعترض لأانك عشقت فارس في شخص آسر حتى لو وقعتي في حبي من جديد ففارس لن يتألم لأنك أحببت فيه آسر فكلا الشخصين أنا وأي رجلٍ منهما عشقت لا يهم فأنت بالحاليين تمامي أنا وحدي.
أخذت نفساً عميقاً: هل عدت لأرض الحب كي تبحث عن عائل...
رد بتسرع: أبداً لن أفعل ,أنا عدتُ من أجلك أنت فقط ـ أطرق مفكراً ـ كثيراً ما يعبث بنفسي الفضول لأعرف عائلتي أتمنى لو ألتقي أمي فأسألها لماذا فعلت بي ذلك ؟ـ عاد بعينين حزينتين لها ـ أخبريني يا جنتي كيف أبحث عن امرأةٍ لا أعرف حتى اسمها من أين أبدأ وأين أنتهي أنا حتى الآن راضٍ عن كوني ابن جورج ولن أبحث عن الأصل أبداً يكفيني هو وزوجته عائلة لي ـ نهض بحماس ـ حسناً نلتقي بالغد إن شاء الله مضطرٌ للرحيل الآن من أجل إدريس.
قبل أن يبتعد كانت تهتف اتصل بي قبل أن تنام سأنتظرك ...هز رأسه بالموافقة مبتسماً ولو بيده مودعاً ,مضى الوقت ثقيلاً على صدر ورد التي عادت تتوه بين الشخصين هي على يقين أنها أغرمت به ليس هذا فقط بل لم تعد تتألم حين تتذكر فارس لم تمارس طقوس الانتظار الحزين له منذ ظهور آسر هي لم ولن تنسى حُبَ الطفولة يوما ولكن من حقها أن تقع في الحب من جديد ...
على أن تلك الوخزه في صدرها لازالت تلح عليها بأنهما شخصٌ واحد.
هي وعدته أنها لن تربط حدث فقدانه الذاكرة وجهله من هي عائلته الحقيقية بغياب فارس لكن الاشارات واضحة كلها تقول هما شخصٌ واحد أرهقت من شدة التفكير وكادت تغفوا لولا أن رن هاتفها معلناً اتصاله الذي تأخر بعض الشيء.
ردت باسمة: أهلاً آسر لقد تأخرت كدتُ أغفو كيف هو إدريس ...هل هو بخير لازال يعاني أطعمته أم تركته ينام جائعاً؟
ضحك :لم أعلم أنني أتصل بإذاعة الشرق برنامج السؤال علينا والجواب عليك والجائزة لشركة الاتصال ,على رسلك يا جنتي إدريس بجانبي إذا كنت تودين الحديث معه.
ردت بلهفة : أجل ,أجل سأتحدث معه.
بعد ثواني جاءها صوت إدريس الحزين المتعب : أهلا ورد كيف أنت يا صديقة.
لم ترد سريعاً كما أرادت أحست أنها بحاجة لترتيب كلماتها أكثر: حسناً اسمعني يا أخي أنا لا أجيد المواساة ولم أنجح يوما بمواقف العزاء اجتماعياً ربما أكون فتاةً فاشلة ولكن قديما قال لي فارس أن الحزن ثوباً أسود يطفئ نور قلوبنا فنتوه من أحبتنا الراحلين قال لي أيضاً أن الأحبة حين يموتون يتعلقون في كبد السماء كالنجوم تماماً يراقبونا ويبتسموا يفرحوا لفرحنا ويتألموا إن تألمنا ولدك كذلك سيراقبك من بعيد لا تقتله بالحزن أرجوك دعه يفرح بفرحك ولا تبكيه على قلبك المفطور برحيله.
لجم كلماتها صوت إدريس الباكي بل المنتحب: تعلمين يا جنة الصدق لقد غادر طفلا صغير أعلم انه رحل إلى الجنة لكن الفقد صعب
في البداية ظننتك تبالغين لم أصدق حبك لذاك الراحل وتعلقك به إلى هذا الحد لذلك عاقبني الرب بفقدان صغيري.
ردت بسرعة: لا لا لم يفعل لم يعاقبك لكن اختاره ليكون طيرا بالجنة صلي يا إدريس صلي وتوسل إلى الله أن يملأ قلبك نورا يهديك سبيل الرشاد حتى تجتمع بطفلك في النهاية.
مسح إدريس دموعه ورد باسما يغالب غصة الحسرة: تقصدين الإسلام ,حسناً يا صديقة حتماً سأفعل هذا آسر تحدثي معه وأرجو أن لا تتركيه قبل أن أغط في النوم فقد حشاني بالطعام بما يكفيني لشهرٍ قادم.
ضحكت ضحكة شاحبة: حسناً سأفعل
وقد غرقت بالحديث معه من جديد تحدثا لفترة تجاوزت الساعتين حدثته عن الزهور عن عشقها للفراشات والطيور عن حلمها ورغبتها بالعمل في مجال الآثار عن عشقها للخيول وخوفها منها .
في تلك الأمسية لم تنام بل جلست قرب النافذة تراقب النجوم حالمة , صباح اليوم التالي كانت تشرب الماء حين دخلت أمينة المطبخ بدت مرهقة جداً وكأنها لم تنام جيداً.
تساءلت ورد عن حالها فتعللت بآلام المفاصل التي تعانيها أرادت أن تسأل عن شيءٍ ما ولكنها امتنعت باللحظة الأخيرة.
بعد الغداء كان موعد اللقاء في الحقول البعيدة,كانت تطير بين الزهور البرية كفراشةٍ من نور بينما يراقبها ضاحكاً.
حين تعبت رمت بجسدها أرضاً تحت الشجرة الكبيرة جلس بجوارها يعبث بالتراب بعد حين اعتدلت جالسة بسرعة وكأنها تذكرت أمراً مهم.
لم تحدثني كيف مات الطفل وكم يبلغ من العمر وما سر علاقتك بإدريس...؟
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
20-06-18, 01:50 PM
ج15
أطرق متذكراً:التقيت به منذ 8 سنوات يكبرني بعامين كان يبحث عن عمل ليعيل عائلته فقد مات والده وترك له ثلاثة أخوات أخ وأمٌ مريضة جمعتني به الصدفة تعلقنا ببعض تعلق الأخوة وقد حدثت جورج عنه فقدم له السكن والعمل ساعده ليكمل دراسته وقدم منح دراسية لشقيقاته الثلاث منذ أن التقينا صدفة حتى الآن لم نفترق فترة تتعدى بضعة أيام في أسوء الحالات.
تزوج فتاة مسيحية من أصولٍ شرقية لم يرزق بالأطفال في السنة الأولى رغم أنه لا مشاكل صحية بعد حين رزقا بألفونس لكنه خلق بعيب في الرئتين والقلب كذلك العمل الجراحي لم ينقذ الصغير لقد مات قبل أن يطفئ الشمعة الثالثة ولأن أمه حامل سافرت إلى حيث تقيم عائلتها لتستعين بهم على تخطي المصاب دون أن تفقد جنينها.
ورد: إذن هي من الجنوب ..؟ ـهز رأسه مؤكداً ـ أخبرني يا آسر إن كان هذا الحديث لا يضايقك ـ نظر لها باهتمام ـ الكابوس.
تنهد بعمق: لم أعد أعاني منه كما في السابق لكنه لم يتركني بعد على أنني بت أعرف طلبه المبهم ـ نظر لها باسماًـ رجلٌ قضى في الحرب يطلب مني حقه .
فتحت عيناها بصدمة: حقه ! أي حقٍ تقصد..؟!
هز رأسه ونظر بعيداً: لا زال يأتيني يهزني بعنف قائلاً حقي ,حقي يجب أن تعود.
ربتت على ظهره: مجرد كابوس سينتهي يوماً ما لكن متى قامت الحرب وأين هل هي في الشرق؟
اتكئ إلى جذع الشجرة الضخم: كانت تلك البلاد غارقة في حروب العصابات استمر وضعها المضطرب لسنواتٍ طويلة قبل أن تجد الحكومة حلاً ينهي النزاع بين عصابات المجرمين الذين يقتلون من أجل القتل ليس إلا يقول أبي ـجورج ـ كثُر من قضوا في تلك الأحداث من الأبرياء ربما الكابوس يعود لأحد ضحايا تلك المأساة لكن كيف أعيد له حقه وقد انتهى أصلاً زمن العصابات والانتقام ...؟
فكر قليلاً ثم سأل بتردد :الخادمة ...هل قالت شيء ـ نظرت له بذهول أخذ نفساً عميق ـ حين رأتني بالأمس قبضت كلتا يديها إلى صدرها وقرأت المعوذات ,ضحك هل أنا عفريتٌ يا جنة ـ تحسس ذراعه الأيسر ـ لم تخبريني في أي مكانٍ كُسر ذراعه فوق الرسغ مباشرة ـ نظر لها.
هزت رأسها مؤكدة : أحدهما فوق الرسغ مباشرة والثاني يبتعد عنه قدر ثماني سنتمتر قال الطبيب أنه الإصابة بحاجة لعناية حتى لا يتهتك العظم ولا تكون الذراع هشة سهلة الكسر ولكن ...
أكمل بمرارة: لم يتلقى العناية اللازمة فبقيت يده ضعيفة مهددة أليس كذلك حتى عينه اليُسرى تضررت ضرراً دائم وإن لم تفقئ.
احتقن وجهها وجعاً: كيف عرفت كل هذا ... ثم بدت وكأن أمراً خطر ببالهاـ آسر هيا معي ثمة أشخاص يجب أن تقابلهم.
نهض ينفض التراب عن ثيابه لكنها رحلت سريعا تبعها متسائلاً
من هم يا جنة انتظري أرجوك .
كانت قد استقرت في المقعد المجاور له حين أدار المحرك نظر لها: بماذا تفكرين..؟
نظرت في عينيه: منذ حضورك وأمينه بها شيءٌ مبهم لكنها ترفض الحديث البستاني رجلٌ عجوز لكنه يتذكر كل شيء كذلك عامل الكراج كان السائق الخاص بالعم عبد الله لست أدري كيف نسيتهم كل ما مضى من وقت.
نظر بعيداً: تتوقين شوقاً لعودة فارس أليس كذلك ...هل ستكتفين بي يوما؟
هزت رأسها نافيه: أبداً يا آسر صدقني كل ما أتوق شوقاً له هو نبضك أنت,أنت فقط لكن لا ضير في إماطة اللثام عن وجه الماضي مهما كان قبيح.
ابتسم بمرارة: لست راغباً بعودته حتى لا أفقدك ـ نظرت له فطرق على المقود ـ ألم تقولي بأنك ستهربين من وجهه وأن لا طاقة لك على لقائه ودم عبد الله في عنق والدك .
مسحت دمعة هاربة: الآن ليس مهماً إن كنت سأبقى أو حتى أرحل المهم أن تشعر أنت بالاستقرار.
قبض على يدها بقوة: أنت استقراري عديني إذا تذكرت كل شيء أنك لن ترحلي.
نظرت له بعينين باكيتين: ليتني أستطيع صدقني يا آسر من الصعب أن ـ أشاحت بعينيها بعيداً ـ حسناً دعنا لا نستبق الأحداث.
في الأرض الزراعية التابعة للقصر كان يقبع منزل صغير على تلةٍ تشرفُ على الأرض من شرقها لغربها ومن جنوبها لشمالها كان البستاني العجوز قد لزم منزله منذ سنة ونصف فقد غدا مقعداً.
طرقت باب حجرته ودخلت تسلم عليه لكنه عيناه تعلقتا بوجه آسر ,
فتح ذراعيه هاتفاً :أخيراً عدتَ يا ولدي ,حمداً لله على سلامتك ...
تجمد في مكانه تبادل النظرات النظرات المتسائلة مع ورد وذراعي العجوز لا زالتا معلقتان بالهواء.
فهتف به: تعال يا فارس إلى حضن جدك أم أنك نستني
اقترب منه يعانقه مردداً: لست فارس يا عم صدقني أنا لا أعرفك .
مسح العجوز على وجهه بشوق: إذن لم تتذكر بعد! هل قابلت باسل أم أنك اكتفيت بجنتك عن الدنيا ومن فيها...؟
نظر لورد عيناه تستغيثان ولسانه يسأل: عامل الكراج ...؟
هزت رأسها نافية وقد دمعت عيناها: يقصد أبي.
بقيا في ضيافة العجوز الذي تحدث كثيراً ,كانت كلماته سهاماً تمزق رأس آسر فلا هو قادرٌ على التذكر ولا الأحداثُ مسحت تماماً ,يكاد يجزم أنه عاش تلك الأحداث لكن متى وأين ...؟
قبيل الغروب كان آسر جالساً بجوار باسل الباكي :إذن لقد عدت يا ولدي.
هز آسر رأسه مؤكداً: نعم ولن أرحل من جديد مهما كلفني الأمر.
أخذ باسل نفساً عميق: الآن يمكنني الموت بسلام.
انتفض جسد ورد بخوف:لكن أبي
أشار لها أن تسكت: حسناً يا آسر في حجرة ورد تحت السرير بابٌ صغير تصل منه إلى محبسٍ مظلم ستجد فيه ضالتك...لقد تعبت من حمل الأمانة يا ولدي ,إذا عزمت على كشف هويتك توجب عليك توجيه الضربة القاضية بسرعة لأن عسكر لن يتركك بسلام إن تأكد أنك عدت حتما سيحاول قتلك من جديد.
كانت ورد ذاهلة :هل كنت على علم بأنه حيٌّ يرزق ...لماذا خبئت تلك الحقيقة بل وأنكرت عودته ...؟
تنهد باسل: حتى لا تطاله يد الطاغية ...عسكر جبارٌ يا ورد قتل أخيه بل كل عائلة أخيه من أجل متاعٍ زائل فكيف يبقي على حياة رجلٍ كآسر.
بعد يومٍ شاق كانت الأوراق التي تدين عسكر بكل صفقاته المشبوهة والإثباتات القاطعة بتورطه في حادثة قتل عبد الله كذلك زوجته وابنته حتى أوراق آسر الشخصية جميعها معها.
في اليوم التالي عاد يزور باسل دون علم ورد: أخبرني لماذا أخفيتها كل هذه السنين هل كنت على يقين من عودتي...؟
تعلقت عينا باسل بوجهه للحظات: كنت عازماً على الإيقاع به لكنه ـ وغص بالبكاءـ
آسر: لكنه ماذا؟
مسح باسل وجهه بغضب: قتل زوجتي وابني الوحيد ...نعم المنزل لم يحترق بفعل تماسس كهربائي بل بفعل فاعل ,بعد ذلك خفت على ورد فأخفيت كل ما تحمله الآن وأقنعته أن هذه الملفات ذهبت بالحريق مي منزلي.
طأطأ آسر رأسه بأسف: رحمهما الله ,حسناً أنا لم أحضر من أجل الانتقام لا منك ولا من سواك أنا عدت أبحث عن شطري الضائع وقد وجدتها أما القصاص فاتركه لله على أنني لن أسكت على ضياع أبناء بلدي وسأوقعه بشر أفعاله.
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
20-06-18, 04:56 PM
ج16
أمسك باسل يديه بسرعة راجياً: لا تفعل خذ جنتك وإرحل فقط ...عسكر مجرمٌ يا آسر سوف يقتلك بدمٍ بارد.
ابتسم بمرارة: وهو لم يقتلني حتى الآن..؟ ـ نظر لوجه باسل ـ لقد قتلني ألف مرة في كل لحظةٍ مضت دون أن أتذكر عائلتي وحياتي.
استرخى باسل في فراشه: سامحني يا ولدي لقد كنت شريكا بصمتي.
انتبه آسر: أنت لم تخطط لتلك الجرائم هذا ما أخبرني به عامل الكراج.
تنهد بضيق: وما الفرق بين السكوت على الباطل وبين
قاطعه آسر: الفرق كبير ثم أنت دفعت ثمن اعتراضك باهظاً على أن ورد لازالت تعتقد أنك شريك هي تحمل عبئ تلك المصائب كاملاً ويجب أن تتحرر منه.
امسك باسل يده خائفاً: إن علمت سيقتلها عسكر.
ابتسم بمرارة: لهذه الدرجة جبارٌ هو ومخيف...؟!
أغمض باسل عينيه بمرارة يسترجع بعض الذكريات ورد بصوتٍ مختنق: فوق التصور.
آسر: حسناً عدت لأسألك
بتلك اللحظة قُرع الباب لتدخل ورد في يدها كوب حليب وبعض الكعك وقد تفاجأت بوجود آسر فارس النبض وساكن القلب ابتسمت مرحبة فرد آسر تحيتها ببسمة عذبه وحركة بسيطة من رأسه وعاد يكمل حديثه.
لقد وجدتُ أوراقا كثيرة من ضمنها شهادة وفاة فارس وهي بتاريخٍ يسبق تاريخ الحادث بكثير .
فتحت ورد عينيها بصدمة وقد تعلقتا على وجه آسر ثم عادت تسأل والدها
إن كنت تعلم أن فارس حي ...لماذا أقسمت لي مراراً على موته...؟
باسل :لأن فارس مات حقاً يا صغيرتي.
تنهدت وطرقت الأرض بقدمها تكتم غضبها: ها قد عدت إذن.
قاطعها باسل: أقسم لكما فارس مات ...مات أنا لا أعرف التفاصيل فتاريخ معرفتي بعبد الله كان بعد وفاة ابنه بثلاث سنوات على أقل تقدير...لكني سمعت عن الأمر من البستاني العجوز.
كان وقع الكلمات على ورد وآسر رهيب ...فسأل بصوتٍ متهدج : ماذا تعني ... من أكون أنا هل عدتُ للصفر من جديد ...؟
استرخى باسل مبتسماً: أنت توءم فارس يا ولدي ,لقد أتيت إلى الدنيا ضعيفاً جداً بعكس شقيقك الذي سبقك إلى الدنيا ,صحيح أمينه لا بد وأنها تعرف القصة كاملة فأمها رحمها الله مربيتكما التوءم ...قال البستاني أنك لزمت الحضانة مدة شهر تقريباً لذلك عُرف عبد الله بأبي فارس على أن قدر الله نافذ خرجت أنت وكبرتما معاً حتى سن الرابعة مات شقيك مسموماً والمربية كذلك وأصابع الاتهام أشارت لذلك بعسكر لكن عبد الله لم يصدق أن شقيقة قد يفعل أما أنت فقد حملت اسم شقيقك لأسبابٍ لا يعرفها إلا الله ووالدك لكن اسمك الحقيقي آسر كما وجدت في أوراقك الخاصة .
أنا يا ولدي حين أرسلتك للغرب لم أجردك من هويتك الحقيقية كل ما فعلته أنني كتبت في دفترٍ صغير قصة لا تمت لقصتك بصلة حتى لا يفكر جورج بالبحث عن عائلتك فتعود للطاغية كي يقتلك .
سألت ورد والدها: أرسلته...ماذا تقصد ...؟
رد باسل مغالباً الغصة في حلقة: نعم يا ورد حين نجا من الحادث تعاونت مع البستاني وعامل الكراج أرسلناه للعلاج في مدينة النور فعسكر لم يعلم بنجاته لذا لم يبحث عنه وقد أرسلناه لمكانٍ لن يخطر للطاغية على بال, حين بدأ يسترد عافيته أخبرنا الطبيب أنه فاقدٌ للذاكرة فطلبت تحويله للعلاج في الخارج ...كلفني الأمر كثيراً من الأموال التي أغدقها علي الطاغية لأنه ظن أنني تخلصتُ منهما للأبد.
نظر لآسرـ نجحت خطتي لكنني لم أعتقد أنك لن تتذكر أي شيء أبداً حتى حين حدثتني ورد عن عودتك ورد فعلك حين التقيتما قررت الصمت فأنا راغبٌ بنجاتك حقاً وعسكر مجرمٌ لا يمكن لمن لا يعرفه أن يجابهه.
أطبق آسر بيدين قويتين على يد باسل شاكراً يلمع في عينيه بريق تحدي وقوة
: الآن يا عمي أشعر بالرضا والراحة لا يهم أن أتذكر كل شيء كل ما أريده الآن موافقتك على طلبي ـ ونظر لورد بحنان ـ هلا زوجتني جنة الورد هذه ...؟
ابتسم باسل: جلُّ ما أتمناه أن أطمئن أنها غدت في ظل فارسها الذي لم يرحل أبداً.
توردتا وجنتيها من نظرات آسر وهمت بالمغادرة والبسمة تعلو شفتيها فلحق بها يحدثها بجدية.
أدراها لتواجهه: سنقيم حفل خطوبة صغير ثم نرحل للجنوب سأتركك في بيت عذراء هناك ستكونين في مأمن وحين أنتهي من أمر عسكر نتزوج ونرحل غرباً حيث والداي بانتظار ليتعرفا على جنتي .
كانت عيناها تفيضان بدموع القلق والخوف: ستواجه عسكر ,إن خسرتك هذه المرة ماذا أفعل...؟
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
20-06-18, 05:00 PM
ج 17
أدار وجهه بضع ثوانٍ ثم عاد لها بعينين واثقتين: ألله معي ...سينصرني ويحميني ,أرض الحب يا ورد غارقة بالأسلحة والمخدرات مشاريعه في سرقت الأعضاء البشرية من الموتى وحتى الأحياء على أشدها ,لدي الأوراق يعني لم يتبقى أمامي إلا نصف الطريق يجب أن نمسك به متلبساً بجرائمه.
ردت بضيق: هذا ليس عملك إنها مهمة رجال الأمن.
ابتسم: لن أجادلك في الأمر هذا المساء سيحضر إدريس وعذراء عامل الكراج البستاني وعائلته سنجتمع كما كنا سنفرح سوية أرجوك يا جنتي كوني سنداً لي في ما أنا مقبلٌ عليه ,لا تكوني سداً يحول بيني والطاغية أنا بحاجة لقوتك لثقتك ليقينك بالله ليس للخوف والقلق ...أنا لن أعيش في الظل حتى آخر العمر يا حبيبتي ولن أورث أطفالي الخوف من الغد وجرع الذل كأساً تلو أخيه.
ابتسمت لأحلامه ونكست رأسها تخفي خوفها: حسناً ولكن نبقى على اتصال سأعرف أخبارك دائماً أليس كذلك؟
لقد كانت من أجمل الأمسيات خرجت أمينه عن صمتها وعانقت آسر بشوق الأم التي حرمت وليدها فهي من ربته بعد وفاة أمها وقد حدثته عن أشياء كثيرة حدثت في الماضي...
بعد أيامٍ قليلة كانت ورد تستعد للسفر مع عذراء وأمها للجنوب في صالة الجلوس اجتمعوا قُبيل الرحيل ودعهم آسر الذي افتقد إدريس لبعض الوقت حين عاد أراد أن يوصيه على ورد
فهتف به: أقسم بالرب ستكون بخير إخوة عذراء يعملون في سلك الشرطة في الجنوب وهم درعها سيفدونها بدمائهم ...ما بك يا صديقي هل فقدت الثقة الآن...؟
كان آسر مصدوماً حد عقد اللسان : إخوة عذراء ...وأنت يا إدريس ألن تهتم لها كما وعدتني؟!
ابتسم ودق على صدره حيث ينبض قلبه: أما وأنت مقبلٌ على الموت أقسم أنني سأحرم على خافقي النبض إن رحلتُ عنك اليوم ...لا تقلق فقد هيأت لها كل ما قد تحتاجه لحمايتها.
نفض آسر رأسه لا يعي مقصد إدريس أمسك إدريس يدي صديقة بقوة :دائما كنا روحا في جسدين في ظل ظروفٍ أقسى من هذه بكثير وقفت معي تدعمني وكنت دائما درعاً يحمي صدري أفلا أكون كذلك يا توءم الروح.
قفزت دمعة من عيني آسر فمسحها إدريس وعانق صديقة بحب :سنحارب معاً وننتصر معاً عدني يا آسر أن نكون يداً واحدة في هذه الحرب .
نكس آسر رأسه بألم: وما ذنبك حتى تقتحم الجحيم معي ...ماذا لو خسرت حياتك في معركةٍ لا ناقة لك فيها ولا بعير...؟
عذراء من هتفت مجيبة: بل له أخٌ صادقٌ صدوق ...تعلم يا آسر رغم خوفي من القادم إلا أنني أبدا لن أرضى بتخلي إدريس عنك ثقا بالرب فقط وهو من سينصركما,لا تطيلا الغياب فآسر وورد كذلك ينتظرانكما بفارغ الصبر.
نظرا لبعض ببلاهة وعادا لها بنظراتٍ تحمل الأسئلة فابتسمت: بالأمس أخبرتني الطبيبة أن توءمي ذكر وأنثى فأسميتهما منذ اللحظة آسر وورد.
عم الفرح يمسح بعض الحزن والقلق المتسلط على القلوب,انقضى النهار ثقيلاً فالحرب المرتقبة شرسة ولا مجال فيها للخطأ.
كانت ورد كلما احترقت بقلقها وخوفها لجأت لمصلاها وعذراء كذلك كثيراً ما صلت من أجلهما اتصالات آسر وإدريس قليلة إن لم تكن نادرة على أن إخوة عذراء كثيراً ما بثوا الطمأنينة في القلوب الخائفة فقد تعاونوا كثيراً مع آسر في كشف أوراق عسكر للعدالة.
بعد مضي ثلاثة أشهر جاء ورد اتصال من آسر كان بعد الغروب بقليل ردت عليه بلهفة فألجمها صوته الحزين
: جنتي اشتقت لك كأرضٍ ضربها الصيف طويلاً جدباء تتحرق شوقاً لدموع السماء أحبك أكثر من زهور الياسمين التي توجتك بها مراراً قلبي معك ولكن ...هذا المساء سيكون الفيصل في حربي الشرسة ,مغادرٌ أنا قد لا تكتب لي عودة رغم هذا أقصدُ إن رحلت أسكنيني التراب ودعي قلبك لآخر لا يورثك حزناً أسود وانتظارٌ على قارعة الموت لا ينتهي.
كانت تبكي ولا قوة بها لترد ـ آه يا جنة لو أستطيع مسح دموعك الآن لو أستطيع أن أربت على قلبك بحنان عديني يا حبيبتي أن لا تتركي الدنيا خلفك مجدداً إن رحلت ,لا تجعلي ترابي قبلتك كما فعلت في السابق.
أخيراً أجابته بصوتٍ يتقطع حسرة: إذن عدني أنك لن تموت.
هتف بها: وهل أستطيع ذلك تعلمين للموت سلطاناً يا جنـ
هتفت بلوعة: وللحب على القلوب سلطاناً كما الموت تماما فلا تطالبني بما لا طاقة لي عليه.
حبس دموعاً غص بها: حسناً يجب أن أغادر الآن فقط أردت وداعك فقد لا يتاح لي هذا بعد ما أنا مقبلٌ عليه.
بكت بحرقة: سأرسل دعواتي لك إلى عمق السماء والله أكرمُ من أن يرد دعاء المضطر ـ كاد أن يغلق الخط فهتفت به ـ فارس ـ استمع باهتمام ـ فارسٌ أنت والنصرُ حليف الفرسان أودعتك لله يا حباً ما غيبته سنين الغياب الله معك كذلك قلبي معك.
ابتسم يداعب الأمل قلبه , الخوف والرهبة حقيقة كالموت تماماً في موقفٍ عصيب كالقادم لا مجال كي لا نخاف لا نهاب على أن الشجعان وحدهم من يتقدمون بلا تردد.
العظماء وحدهم من يحملون الأرواح على الأكف سعياً لإماطَة اللثام عن وجه الشر القبيح.
كانت ليلة قاسية وكادت أن لا تنتهي طويلةٌ هي وشاقة تماماً كصحراء قاحلة تبتلع طفلاً حافي القدمين عاري الصدر أتاها بلا زاد,على أن الله لا يخذل ه
من عليه اتكل وإليه لجئ.
لقد طال عمر الباطل وها قد آن له أن ينتهي بزغَ الفجر وداعبت الشمس وجه الأرض الحزين تلقت عذراء اتصال من شقيقها الأكبر يطلب منها المغادرة مع ورد إلى مدينتها فعسكر انتهى أمره وجلَّ أتباعه في قبضة العدالة.
هي على علمٍ بما حدث لكن سماعها صوت إدريس الحنون بثها شجاعةً وقوة سافرتا إلى حيث يرقد آسر ركضت إليه ورد باكيه ...رباه أيكون هذا رقوده الأخير...؟استفسرت من الطبيب الذي رد بكثيرٍ من اليأس إذا مضت عليه أربع وعشرون ساعة وهو على قيد الحياة فقد نجا بإذن الله هذه الساعات ستكون الحكم على حاله بالغد فصلي من أجله كثيراً لأننا لا نملك له غير الصلاة والدعاء أي شيء.
كانت تبكي بهدوء قلبها يحدثها أنه بخير ثمة أمل رغم صعوبة الموقف داعبُ روحها جلست جواره تتلو آيات الذكر الحكيم بشيء من الجلد.
مرت الساعات بطيئة دقائقها أزمنة حزن عقاربها مخلوقاتٌ تنهش في جسد القلب أه متى ينقضي هذا النهار ؟!
لم تعي أي شيءٍ من حولها حتى أنها لم تتنبه لإصابة إدريس حين حلَّ المساء أتاها بالطعام فذهلت حين رأته.
قالت بصدمةٍ واضحة: أنت كذلك مصاب...؟!
استقام بوقفته وعيناه معلقتان على وجه صديقة: حتى الآن مصاب وأدعو الرب أن لا يكسر ظهري, آسر يحبك يا ورد فإن كنت له عاشقة تناولي طعامك وتجلدي بالصبر وتحلي بالقوة اللازمة لمواجهة الغد.
نظرت لوجه آسر الشاحب جداً: لن أكترث مادام حياً لا أريد من هذه الفانية غير وجوده أي شيء...ضغطت قلبها بيدها, يشعر به أجل لازال يشعر به أسمع نبضه آسر لا يمكن له أن يرحل من جديد هو لن يفعل أليس كذلك...؟
نظرت لإدريس الباكي بصمت: وضعه لا يبشر بالخير يا أخيه.
هزت رأسها بعنف ترفض الاستماع: لا لن أفقده من جديد كانت تبكي حين انتبهت على صوتِ الارتطام لتكتشف أن إدريس غرق في غيبوبة استمرت لساعتين.
كان الطبيب يتحدث بأسى :لم أشهد بحياتي كهذين الصديقين وصل آسر للمستشفى في حالٍ يشبه النزاع على أنه يهتف بنا أنقذوا إدريس وهذا المجنون رفض الراحة في سريره وفضل الموت بجوار صديقة من أين لنا بقلوبٍ كقلوبهم مليئة بالطهر والصدق.
اقتربت ورد من الطبيب تغالب البكاء:سيكونا بخير أليس كذلك ؟
هز رأسه: إدريس بلا أما آسر فلازال تحت الخطر فجر الغد يأتينا بالخبر اليقين .
\
\
يتبع
متاهة الأحزان
20-06-18, 05:03 PM
ج 18
مضت ساعات الليل طويلة وشاقة لم تغفوا ورد بل لم تكف عن الدعاء والتلاوة على أن شروق الشمس جاء ضاحكاً يحمل معه البشائر فقد تجاوز آسر مرحلة الخطر الشديد ...سيبقى تحت العناية المكثفة لكنه قوي الجسد صُلب الإرادة ويبدو أن رحلة العمر أمامه مازالت طويلة.
مضى على رقوده بالمستشفى أسبوعين قبل أن يتمكن من الحديث إلى الآخرين في ذلك اليوم حضر باسل لزيارة المقاتل العنيد فتلقاه باسم الوجه.
قبض على يد ورد بضعف: تعلم يا عمي أنا من فجر السيارة بأبي ـ نظرت له ورد مصدومة ـ لقد طلب مني والدي وعداً بأن لا أفتح دفتر الموسيقى جميعكم كنتم على يقين بأني لن أترك هدية جنتي لأي سبب ,بعد مدة أخبرني أبي أن قنبلة زرعت في السيارة وبرمجت لتنفجر إذا فتح الدفتر فقد زُرع به عدادها التنازلي.
قال لي أننا سنلتقي وحدة تفكيك القنابل على بعد ثلاث كيلو متر من صحراء الجنوب ,جاءه اتصال فبدا متوتراً يقودها بسرعة في تلك الأثناء صدم فتى يقطع الشارع أظنه في مثل عمري بدا متسولا مشرد أو ما يشبه ذلك .
ركضنا له نحمله إلى المقعد الخلفي كان أبي ينوي إيصاله للمستشفى أما أنا فقد نسيت أمر الدفتر تماما بعد أن ألقيته على المقعد الخلفي حين هممت بالركوب كانتا عيني والدي الذي لف حزام الأمان على جسده معلقتان على المرآة بذهول وقد صرخ لا تفعل لا تفعل في نفس اللحظة دفعني بقوة خارج السيارة التي تناثرت حطاماً أسود في كل مكان لم أعي أي شيء أخر ما رأيته ألسنة النار ...
الكابوس الآن فقط أدركت لماذا يصرخ لا تفعل الفتى المحترق في المقعد وجد الدفتر ففتحه لم يكترث أبي لأي شيء غير نجاتي من الانفجار ,ربما سقوطي من السيارة أو حتى إصابتي بسبب الحطام المتناثر من أفقدني ذاكرتي التي ما رغبت يوماً باستعادتها بعد عودتي للحياة من جديد.
نظر لباسل بامتنان: ألم تكن المتصل ...أعلم أنك حاولت إنقاذنا من تدبيرٍ ما لكن جرت الريح بما لا تشتهي السفن ...ماذا قلت له حتى ارتبك...؟
بكى باسل بضعف: علمت بمحض الصدفة أن القنبلة مضبوطة لتنفجر بعد وقتٍ محدد من إدارة المحرك ,اتصلتُ بعبد الله حتى يعرج بها إلى أي مكانٍ تنفجر فيه دون أن يتعرض الناس من حولها للأذى ,لم أتوقع أن يرتبك كانت الصدمة قاتلة ربما خطط عسكر لإرباك أخيه باتصالي فسرب لي الخبر...ثم بكى بقهر ...أقسم لك يا ولدي أنني بذلت قصار جهدي لكني كنت مكبلاً بجرائم لم أرتكبها خفت في ذلك الوقت خفت من السجن ومن حبل المشنقة أن يلتف حول عنقي ظلماً وبهتان وذاك الخوف جعلني دمية في يده .
لم أكن بشجاعتك يوماً وحين حدث فقدتُ أغلا ما أملك زوجتي وولدي ربما عاقبني الله بخسارتهما كما خسارة ساقي وربما قبل توبتي المتأخرة فطهرني من الذنوب بحجم الابتلاء بعد حين جَبُنت ولزمت جانب الصمت خوفاً على جنتك التي ستعيدك من دهاليز الضياع عن ماضيك .
والدك رجلٌ تتشرف به كل الأمة وأمك سيدة عطاءٍ وحب أكرمت الأيتام وآوت المشردين وأغدقت بالعطاء على المساكين سيدة كتلك تاج عزٍ على رأسك.
ضحك آسر بضعف: حمداً لله أنني أراها بعيني قلبي.
اقتربت ورد تهمس له: فقدت ذاكرتك طويلا ...كان غيابك قاتلاً.
نظر لها بحب: تعلمين يا جنتي مهما طوانا النسيان ومهما فقدنا من ذكريات على أن ذاكرة النبض تبقى حية لا تموت أجل القلب يا جنة ذاكرته لا تمحى أبداً لقد عشتُ حياتي في الغرب بقلبٍ مبتور مشقوقٍ إلى نصفين أحدهما معي والآخر لا أدري له سكنا ولا وطن حين التقيت بك اكتمل قلبي ونبض بي حباً مجنون.
كنت وطني على الدوام ورغم فقدراني الماضي لم أستبدلك بوطنٍ آخر.
شدت على يده بحب مضى وقتاً طويل حتى غادر آسر المستشفى كانت عذراء قد أنجبت توءمها تزوجا آسر وورد قبل وفاة باسل بأيامٍ قليلة ثم رحلا برفقة إدريس وزوجته والطفلين غرباً لتلتقي جنة بوالدي زوجها في تلك البلاد.
في المطار كانت ورد تحمل آسر الصغير تحيطه حباً وحنان كذلك عذراء مع وردتها الصغيرة آسر وإدريس ينعمان بالإهمال التام من قِبل الزوجتين .
ردد آسر متذمراً : أنت عروسي عليك الاهتمام بي دعي هذا الطفل لوالده الممل وتعالي إلي.
ضحكت ورد: أعشق الأطفال دعني أتنعم بروعته لبعض الوقت.
كان إدريس غارقاً بالتفكير قبل أن يقول بحماس: هيا يا أصدقاء أنجبا إدريس وعذراء.
ضرب آسر على رأسه: يال مصيبتي هل ستتبعني في أدق تفاصيل حياتي ومن قال أنني سأسمي طفلي باسم غبي مثلك.
وكزه إدريس قائلاً بغضب مفتعل: غبي أنا الآن غبي أيها الأحمق سأريك عاقبة كلامك الآن.
ضحكت ورد: حسناً تشاجرا كما تحبان ولكن تذكرا أنكما لستما الوحيدين في المطار لا تثيرا الفوضى.
قال آسر ضاحكاً وهو يدفع إدريس عنه :ما أروعك يا جنتي سيقطعني إرباً وأنت تخشي إزعاج المسافرين.
هزت كتفيها بلا مبالاة واستدارت في مواجهة عذراء: هل سنصل بلاد الغرب أرملتين؟
في تلك اللحظات ارتفع صوت الضحك من خلفهما فهذين الرجلين لن يكبرا أبداً.
نهرتهما عذراء: صوتكما أيها الطفلين المزعجين .
حدقا بها ببلاهة مفتعلة ثم أشار إدريس إلى فمه : هل يوجد ما يغلقه؟
ضحكت وأعطته كيساً مليء بالمكسرات فابتسم برضا : هذه العذراء تعرف كيف تغلق فمي وفمك أيضا بالوقت المناسب.
\كانت أروع رحلة بين الشرق والغرب رحلة تحمل قلوبا لا تعرف إلا الحب ولا تنبض إلا بالطهر والصدق ...
وفي الختام
حقاً ذاكرة النبض فينا أبدا لاتمحى.
vBulletin® v3.8.9, Copyright ©2000-2024, TranZ by Almuhajir