ارتدى المنزل ثوب الحزن الكئيب وضاقت الدنيا وأخذت أجراس الألم تقرع في زواياه المترامية الأطراف وخلا من الأصوات إلا من تمتمات نادرة وأنفاس متقطعة بين الحين والآخر.
ثلاث أيام هي أيام العزاء كانت ضيوف أثقلت كاهل أصحاب المنزل ومرت وكأنها سنوات عجاف لا تنتهي,,, فترة عصيبة مرت على العائلة كل فرد يأخذ مكانه في أحد الأركان والدموع تتربع بين الأهداب تستأذن في السقوط بين الفينة والأخرى ؛؛ لا أثر لحركة سوى تلك الخادمة تجول المنزل ونعالها تطرق الأرض بقوة وكأنها تعزف لهذه الأيام مقطوعة تربطهم بمأساتهم فلا تعترف بتوقف العمل في أشد الظروف ولا تمل عن مسح المرايا وإخراج التحف والنجف وتكرار مسحها بشكل يثير الملل والكل ينظر إليها بإشمئزاز دون أن يتفوه أحد بكلمة إلى أن أخذت تنادي وبلغتها الضعيفة "عشاء عشاء"فصرخت سمر في وجه الخادمة بهستيرية : اخرجي من هنا اخرجي
نظر الجميع إلى سمر دون أن ينطق أحد بكلمة واحدة فهذا هو حالها منذ أن وصل الأسرة خبر وفاة محمد وهو الأخ الأكبر في حادث شنيع زلزل كيان الأسرة .
كان محمد هو الأخ الكبير المتسلط الذي فرض هيمنته على المنزل واستبد بلأمر فيه مع أن الوالد لا زال على قيد الحياة وفي صحة جيدة ولكن أراد أن يحمل ولده المسؤولية فأسند إليه جميع الأمور المتعلقة بممتلكاته.
وعندما تزوج محمد وأنجب أحب أن يستأثر بكل شيء لنفسه وأن يبعد أخوانه عن جميع أملاك والده وبقي الأب صامتا يراقب عن بعد هذا التقلب في مزاج ولده الذي علق عليه آماله وأنتظر منه أن يحقق للعائلة الكثير ويحتويها ويحافظ عليها
وأمام صمت الوالد واحتجاج بقية الأخوة بقي محمد منبوذ إلى حد ما فقليل مايتبادل معه أحد الكلام إلا في حال وجود جدال وارتفاع في الأصوات وخاصة مع أخوانه بينما الوالد والوالدة لا يزيدا عن كلمة "الله يهديه" كل ماتوجه إليهما أحد من أخوانه بالشكوى.
ومع كل تلك الشراسة التي كان عليها محمد بقيت سمر وهي الفتاة الوحيدة المدللة في المنزل أخته التي يلبي جميع طلباتها ولا يرفض لها أمرا وهي أيضا لم تكن حاقدة عليه لأنها كانت تشعر بالأمان لوجوده ولا تتخيل حياتها بدون قلبه الحنون.
وبعد أن سمعت بخبر وفاته تشعر أن عمرها زاد عشرات السنين وأن الحزن الذي يشتعل داخلها لا يمكن أن ينطفئ أبدا.
ترتدي سمر عباءتها وتنطلق نحو الباب والأم تنادي سمر،،،،سمر ويرجع صدى صوتها دون مجيب يضرب جدران القصر الجامد.
خطواتها الثملة لا تدري إلى أين تحملها فكر مشتت يبحث عن مكان يجمع أشلاؤه المرهقة وتتمنى لو أن تلك الأيام مجرد حلم أو غيبوبة قد تنتهي برشة عطر كتلك الغيبوبة التي كانت تدعيها لتجذب الإنتباه إليها عند ذكر شيء تكرهه أو موقف يثير اشمئزازها ولكن بعد اليوم لن تثير تلك الغيبوبة التافهة أحد ولم تعد تشعر بمتعة تلك التمثيلية الساذجة
السائق يقود السيارة دون أن تحدد له اتجاهه فقط تجوب السيارة الشوارع دون هدف كما تشعر سمر أنها بدون هدف أو استيعاب لما يحدث حولها.
وفجأة وأمام أحد المجمعات التجارية تصرخ سمر في السائق توقف هنا !!
أذعن السائق للأمر بتلك الابتسامة البلهاء والإستغراب يشوب ملامحه الهندية.
لم تلقي له سمر بالا واتجهت نحو السوق وكأنها تلجأ إلى الأم الحنون التي ستواسيها في مصيبتها وتربت على شعرها وتخفف عنها !! كانت لافتات العلامات التجارية التي تهوى إقتنائها تتلألأ أنوارها ولكن لا تشعر بذلك الانجذاب إليها شيء داخلها يردد وماذا بعد أن أرتدي أثمن الملابس وأملك أغلى العطور سينتهي كل شيء.وتسترد نظرها في وجوه المارين وكأنها تبحث عن أحد ما وتتذكر تلك الأوقات التي قضتها مع صديقاتها يسخرن من أنف هذا وشعر هذا ويطلقن تلك الضحكات الغبية دون خجل وشعور انتابها لم يعد يعنيها أشكالهم أو لون عيون المارة أو حجم أنوفهم كل مايعنيها هل كل وجه يمر يحمل حكاية أو فراق أو ألم مايرهق أنفاسه كما هي الآن هل يروي وجهها قصة وجعها ما هذا الشعور بالهذيان كل شيء حولها يدور الجدران المحلات وحتى الوجوه تدور ...أمي
سمر...سمر تفتح عيناها على وجه والدتها وترى نظرات الحزن والشفقة تعصف بملامحه وبتلك الخطوط التي شقتها الأيام عليه
أخذت الوالدة يد ابنتها وضمتها بيديها وقالت بشيء من العتب لماذا تفعلين بنا هذا ياسمر؟
وهل هذا وقت تسوق لولا أولاد الحلال بعد الله أسعفوك للمستشفى بعد أن تعرضتي للإغماء ماذا كان سيحدث لك؟
لم تستطع سمر للإجابة لعلها لم تكن تملك أو لم تفهم من كلام والدتها إلا كلمة إغماء وتذكرت أنها بعد الإغماء يسعى الكل لتلبية رغباتها ..........أما الآن وأخذتها نوبة بكاء حادة..... ووالدتها إلى جانبها تذكرها بالدعوة له بالرحمة والمغفرة وأن ماتفعله لا يجوز.
وبعد أن تناولت الدواء هدأت وبعد أن غفت فترة ليست بطويلة استيقظت على ضحكات طفولية تملأ الغرفة فتدخل الدفء إلى جدرانها الباردة وتدب الحياة فيها من جديد ... طلال ذو الخمس أعوام ولد المرحوم يركض وراء لعبته والإبتسامة تشق طريقها في شفتيه ..نادته سمر بصوت خافت وضمته بشدة ورغم محاولاتها اليائسة في االتماسك إلا أن دمعة سقطت دون سابق انذار.
فركض طلال نحو المناديل وناولها سمر وقال في سعادة وبراءة طفولية
أتعرفين أن والدي الحين في مكان أجمل من هذا المكان؟؟ وتقول أمي أن هناك لا أحد يغضبه ولأنه مرتاح أنا بعد مرتاح ومبسوط عشانه وأنتِ عمة سمر مبسوطة عشانه؟
مع كل الحزن الذي يعصف بها لرحيل أخيها وفراقه ولا تدري كيف ستمضي الأيام بدونه إلا أنها لم تجد سوى الابتسامة في وجه طلال وهي تقول:
أكيد أنا سعيدة من أجله.